shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

التاريخ الاقتصادي للبشرية  

 

المقصود بتاريخ الاقتصاد: تلك الوقائع الاقتصادية التي عاشتها الشعوب والأمم عبر العصور والأزمان المتعاقبة.

ومما لا شك فيه أن هناك ارتباطاً بين التاريخ الاقتصادي والحضارات المتعاقبة؛ زماناً، والمتعددة؛ مكاناً.

ولكن هذا الترابط ليس ارتباطاً حسب سلم الأولويات، كي لا يكون الحديث عن الإنسان وحضارته حديثاً اقتصادياً مادياً، كما تحاول بعض الأنظمة الاقتصادية المعاصرة أن تفسر به الظواهر الاقتصادية والوقائع المادية فيها.

وإنما العامل الاقتصادي من أهم العوامل الدافعة نحو الحضارة والرقي؛ إذ لا يمكن بلوغ درجة الحضارة من دون تحقيق العامل الاقتصادي الناحج.

فالإنسان في حياته الأولى (البدائية) كان يندفع نحو العمل والإنتاج؛ لتأمين مستلزماته الجسدية، وحماية نفسه من الأخطار والأعداء؛ أناساً كانوا أم حيوانات.

ولقد عرفت البشرية الإنسان الباحث عن طعامه وشرابه ومأواه، ثم الإنسان الصيَّاد الذي انتقل من مطعومات نباتية إلى مطعومات حيوانية.

وفي تلك المرحلة السابقة لا يمكن تصور مفهوم الحضارة بمعناه اللغوي: وهو الاستقرار في مكان، بدل الرحلات المتعاقبة اليومية بحثاً عن الطعام والمأوى.

بدء الحضارة:

مع اكتشاف الزراعة، وتدجين الحيوانات واستئناسها بدأ الإنسان بتأمين اقتصاد ثابت وآمن دفعه للاستقرار في مكان؛ وغالباً ما كان الإنسان قريباً من مورد الرزق؛ ماء على شكل أنهار أو بحيرات، ومِن ثَمَّ ابتدع بناء المسكن المناسب لاستقراره.

وكان هذا البدء لفكرة ومفهوم الملكية الفردية لأدوات الإنتاج، ولوسائل الاستهلاك، وبدأ عهد ملكية الأرض المشاعة بالاختفاء شيئاً فشيئاً.

ومما لا شك فيه فإن الملكية الفردية من أهم الدوافع المحفِّزة لإنسان على الاختراع والابتكار، ومزيد النشاط والتنافس الشريف في المجال الاقتصادي، وفي مقابل ذلك لم تخلو مجتمعات من أفراد يركنون إلى الدعة والكسل؛ تبعاً للعلل وأمراض نفسية أو جسدية؛ مما أدى إلى بدء التفاوت الطبقي على أساس التملك.

ومع تزايد عدد السكان داخل المجتمع الأسري الصغير، أو المجتمع الأكبر في القرية الزراعية؛ ومع ازدياد الحاجات البشرية وتحولها إلى مزيد من الرفاهية النسبية، مع ملاحظة ندرة الموارد الاقتصادية: بدأ الإنسان بالتحول إلى البحث عن مصادر رزق جديدة عبر هجرات منظمة جماعية سارت في آفاق الأرض مكتشفة، مما أدى إلى ظهور القوميات والأعراق والأجناس.

ويذكر التاريخ الإنساني أن أقدم الهجرات كانت من شبه الجزيرة العربية الصحراوية إلى بلاد الرافدين، وسواحل بلاد الشام، ولا تُنكر خصوبة بلاد النيل التي جعلت من يعيش حول النهر العظيم يحيا مطمئناً، والتي عملت على استقرار الناس حوله، ولم تُذكر هجرة منظمة بالبعد عنه.

التحول إلى الصناعة:

ومن الحضارات الزراعية بدأ التحول إلى الصناعة؛ وذلك لتحقيق ما يحتاجه الإنسان للباسه، وكذا لسكنه، ولحفظ أطعمته، ولتخزين الفائض الزراعي.

ففي البدء استخدم الإنسان جلود الحيوانات، وألياف الشجر، والتراب المعجون بالماء (الطين)، واستفاد الإنسان من المخلوقات من حوله وقَلَّد بعضها؛ من حيوانات تمتلك وسائل الدفاع عن نفسها.

فقد صنع الإنسان آلات لقذف الحجارة إلى البعيد كما تفعل القردة، وبنى الأكواخ الأولى مقلداً الطيور في أعشاشها، وأقام السدود على الأنهار كما تفعل كلاب الماء، كما صنع أسلحة تشبه مخالب الحيوان المفترس وأسنانه؛ مستفيداً مما تنتجه الأرض زراعياً؛ لصنع السهام والإبر، والمناجل، والألياف والعصي والمطارق والأواني والأوعية ونحوها.

اكتشاف النار:

وقدر الله للإنسان أن يكتشف النار؛ ليساعد ويزيد من إمكانات الإنسان التصنيعية؛ حيث استعملها لأغراض متعددة؛ ومن أبرز الاستخدامات: صنع الفخار عن طريق شي الطين، وكذا في صنع الزجاج من ألياف الشجر، كما استخدما النار في صهر المعادن وإعادة تشكيلها بما يساهم في أنواع من الرفاهية النسبية؛ في صنع الأواني وبعض الأدوات، وكذا في تطور أنواع الأسلحة الدفاعية؛ كل ذلك أسهم في زيادة القدرات اقتصادية للمجتمعات البشرية.

تشكل الدول وتبادل المنافع والخبرات الاقتصادية:

بعد أن تم تشكيل المجتمعات وبدأ التخصص الإنتاجي وتقسم العمل ضمن الأسرة الواحدة أولاً، ثم في الأسرة الأكبر (القرية الصغيرة)، اتسعت الأنشطة الاقتصادية مع تزايد عدد السكان وبدأ التحول إلى تحضرات (من الحضارة) ومدن اتفقت بعضها مع بعض أو بقوة السلاح لتشكل دولاً زراعية أو صناعية أو تجارية؛ وبدأ تبادل المنافع يأخذ طابع العالمية، وتحركت قوافل التجار عبر البلدان شرقاً وغرباً، وبالعكس، بنقل ما فاض عن كل بلد من الإنتاج إلى البلد الذي يحتاج إليه.

فكانت التجارة بين وادي النيل وبلاد الرافدين، وكذا بين شرق آسيا وغرب أوربة مروراً ببلاد الحضارات المشرقية، وكان التجارة بادئ الأمر تعتمد نظام المقايضة والمبادلة للسلع بطريق مباشر، وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك في قصة المجاعة التي أصابت العام في فترة تاريخية وكان تفسير نبي الله يوسف لرؤيا ملك مصر بالتخطيط والاستعداد الاقتصادي لهذه المجاعة العالمية؛ {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، وجاء أخوة يوسف من بلاد الشام إلى وادي النيل للمبادلة بين الصناعة والزراعة، إذ قالوا: { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} (أدوات وأشياء مصنوعة) {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} (ويستخدم في المنتجات الزراعية) وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88]، أي: طلبوا منحة إضافية.

ثم كان الإسهام الحضاري للفينيقيين في تحويل التجارة من مفهوم تبادل السلع بالمقايضة إلى مفهوم متطور يرتكز على استعمال النقود المعدنية (الذهب والفضة) التي اُعترف بها وسيطاً عالمياً في التبادل ومقياساً لقيم الأشياء.

وهكذا اكتملت الأنشطة الاقتصادية؛ زراعة، وصناعة وتجارة؛ مما استتبع مزيداً من التخصص وتقسيم العمل وتنظيمه، وأصبح كل فرد يعمل لغيره، وليس لنفسه فقط.

 


 

المبحث الأول

الاقتصاد البدائي

 

عاش الإنسان في صراع مع عوامل البيئة؛ لإثبات تفوقه، كونه جنساً متميزاً، وبدأ في ذلك بعدد من الأعمال المميزة، من أهمها:

  • الاستقرار في الأرض وبناء المنازل والبيوت.
  • اعتماد الصيد وسيلة للرزق.
  • اكتشاف الزراعة وتخزين الحبوب والأطعمة.
  • تدجين الحيوانات.

وفيما يأتي استعراض أهم الوقائع والأفكار التي مارسها وعاشها الإنسان عبر تاريخه:

  • عصور ما قبل التاريخ (العصور الحجرية):

سميت بهذا كون الإنسان قد اقتصر فيها على استعمال الأدوات والآلات الحجرية، وقد صنف المؤرخون والجيولوجيون حياة الإنسان في هذا العصر إلى:

  1. العصور الحجرية (حضارة ما قبل التاريخ):

وتقسم إلى ثلاثة مراحل:

  • أ‌- العصر الحجري القديم: منذ مئات الألوف من السنين وحتى 12000 سنة ق.م.

وفيها عاش الإنسان على بدائية بسيطة لا يملك من أدوات الإنتاج والتطور أي وسيلة، ومن ثم وفي حقب لاحقة اكتشف النار، وطوَّر نجت الصخر والعظم ليصنع أسلحة وآلات صيد؛ مما مهد الطريق للمدنية والتوطن.

  • ب‌- العصر الحجري الوسيط: بين 12000 سنة ق.م، و6000 سنة ق.م.

وفي هذه المرحلة أصبح الإنسان مزارعاً فاستوطن الأرض، وصياداً وبدأ بالتفكير بالصناعة اليدوية القائمة على جلود الحيوانات بعد صيدها (ملابس).

واعتمد الإنسان على البذور والزراعة وتخزين الحبوب، وتدجين الحيوانات، وبناء مراكز سكنية بدائية للأسرة في الحلقة الأبعد؛ أوسع من الأب والأم.

هذه الاكتشافات أراحت الإنسان من عناء التنقل الدائم، والترحال المضني سعياً وراء الرزق؛ مما أمَّن له الوقت اللازم للتقدم الحضاري.

  • ت‌- العصر الجليدي الحديث: بين 6000 سنة ق.م، و4000 سنة ق.م.

وقد حصل للإنسان في هذا العصر تقدم محسوس في مجال الزراعة المتخصصة، وتربية الحيوانات والاعتناء بها، والاستفادة منها، وبدأ باستعمال الأدوات الحجرية المصقولة.

كما بدأ بتطوير أدوات ليحفظ بها طعامه؛ تخزيناً؛ مما أعطاه وقتاً للراحة والاستقرار؛ مما دفعه لإقامة تجمعات ريفية مستقرة، قريبة من السهول الزراعية، وسفوح الجبال المروية بالأمطار.

  1. العصور المعدنية (التي بدأت باكتشاف المعادن):

العصر النحاسي الحجري: منذ 4000 ق.م.

العصر النحاسي: منذ 2000 ق.م.

أهم خصائص العصور النحاسية:

  • ازدياد التجمعات السكنية الزراعية، وقد تطور بعضها ليشكل المدن التاريخية.
  • وضوح الانتقال من مرحلة الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة تقسيم العمل والتخصص البدائي.
  • ظهور المقايضة عبر مبادلات الفائض.
  • بروز بعض المهن والحِرَف؛ كالفخارين والنجارين.
  • تزايد الحيوانات الداجنة.
  • اختراع الكتابة وسيلة للتعبير عن المراد.
    • اقتصاد عصور ما قبل التاريخ:
      1. الصيد:

بدأت مرحلة تأمين الغذاء للإنسان بصيد الحيوانات والطيور، ومن حياة الصيد انتقل إلى مرحلة الرعاية بالدواجن والمواشي؛ بالإشراف على تناسلها ومعرفة سلوكها وأهميتها للاستفادة القصوى منها، ثم مرحلة الرعي؛ مما أعطاه أماناً واستقراراً واطمئناناً؛ فأنشأ القطيع واستعمل اللبن واللحم واستفاد من عمل هذه المواشي والأنعام.

  1. الزراعة:

لما كان الرجل يغدو صباحاً للتفتيش عن قوته وقوت عياله بالصيد؛ كانت المرأة تكتشف مورداً جديداً للطعام ؛ تنكت الأرض حول مقر إقامة العائلة (الخيمة من الشعر، أو الكوخ من الخشب) لتلتقط ما عساها تصادفه فوق الأرض من مأكول، وراحت تقتلع جذور النباتات وتقطف الثمار، وتجمع العسل، وأثناء هذا العمل كانت بعض الحبات تسقط على الأرض، وما تلبث أن تنمو وتكبر؛ مما نبَّهها إلى سر نمو النبات؛ فبدأ تنظيم زرع الحبوب وجمع المحصول.

  1. جمع الطعام وحفظه:

تعلم الإنسان مما حوله فن التحوط للمستقبل، إذ لاحظ أن الطيور تخزِّن الحبوب في الأعشاش على الشجر، والنحل يخزِّن العسل في الخلايا على الأشجار وفي الجبال؛ ففكر بالتقليد؛ وبدأ بتخزين الطعام وكشف طرق حفظ اللحم بتدخينه أو تمليحه أو تبريده، كما بنى مخازن للغلال تحفظها من المطر والرطوبة والحشرات واللصوص.

وباتجاه الإنسان نحو الزراعة حقق أول أركان الاقتصاد الدائم بانتظار الصناعة والتجارة.

  1. الصناعة:

تطورت الصناعة مع اكتشاف النار في صناعة المعادن؛ إذ بدا بتليينها وطرقها، وفي مرحلة لاحقة مزجها بغيرها، وأخذ يقلِّد آلات الحيوان ووسائل قتاله؛ من أنياب ومخالب وقرون وأسنان متنوعة الأشكال؛ مصنِّعاً مثلها؛ خناجر وسيوف ورماح ومطارق ومناجل وسهام وفؤوس وعصي.

كما صنع المطرقة والسندان، والوعاء الذي يغلي فيه الماء، والمنشار الذي يقص أغصان الشجر لاستعمالها وقوداً، وصنع الأواني والملاعق، والأقداح والأطباق.

وبدت مهارة الإنسان في فن النسيج مكتسباً خبرة العنكبوت وعش الطائر؛ فنسج الألياف والحشائش، وصنع منها ثياباً وبُسُطاً وأغطية، وسلالاً وقلالاً لوضع أمتعته.

  1. التجارة:

بدأ التجارة عبر مبادلة الفائض من الإنتاج، وتطورت رويداً رويداً حتى أُقيمت المتاجر المتخصصة، والأسواق والمراكز التجارية.

واختلفت مقاييس القيم باختلاف البلدان والتجمعات السكنية؛ تبعاً للعرف والندرة النسبية للوسيط الذي تعارف عليه الناس.

ولما وُجدت المعادن بدأت تحل شيئاً فشيئاً وسيطاً في المبادلة ومقياساً للقيم، وبدأت بالنحاس فالبرونز فالحدي، حتى وصلت إلى الذهب والفضة.

  1. التنظيم الاقتصادي:

كانت الملكية محصورة في حدود الأشياء التي يستخدمها الإنسان لشخصه فقط، وغالباً ما كانت هذه الأشياء تُدفن مع صاحبها عند وفاته.

أما باقي الثروة فكانت ملكاً للمجتمع بأسره، ولكن مع العمل الشخصي والجهد الفردي بدأت تزول الملكية الأسرية لتحل محلها الملكية الخاصة، ثم نشأ نظام التوريث لأعضاء الأسرة؛ مما أسهم في ظهور الطبقات الاجتماعية، وقيام السلطة للفصل عند النـزاع، ثم نشأة الدولة.

 


 

المبحث الثاني

النظام الإقطاعي*

ساد النظام الإقطاعي في المجتمع الأوروبي إبان فترة العصور الوسطى، التي استغرقت نحو عشرة قرون متتالية تبدأ من سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي إلى فتح القسطنطينية من قِبَل المسلمين في منتصف القرن الخامس عشر.

وهي فترة ساد فيها الجهل والتخلف المجتمع الأوروبي، ولقد كان للكنيسة أثر فعال في اقتصاد القرون الوسطى من الوجهة النظرية([1]).

حيث أقرت النظام الإقطاعي السائد، كما أقرت الاضطهاد الذي كان يتعرض له أرقاء المجتمع رغم تنافيه مع تعاليم الإنجيل، ولكنها في مواقف أخرى كانت أكثر تشدداً، لا سيما في مسألة الربا.

وظل تشريع الحكومات زمناً طويلاً يؤيد موقف الكنيسة في تحريم الربا، وكانت المحاكم الدينية نفسها تحرم الربا، ولكن تبين أن حاجات التجارة أقوى أثراً من خشية السجن أو الجحيم.

ثم ألغت معظم الدول الأوروبية بعد عام 1400 ما وضعته من قوانين لتحريم الربا، ولم يكن تحريم الكنيسة إلا كلاماً مهملاً يتفق الناس جميعاً على إغفاله.

ولقد شعرت الكنيسة وحلفاؤها الإقطاعيون في العصور الوسطى أن ثمة خطراً يهدد سلامتهم وسلطانهم نتيجة نمو الرأسمالية، وإن لم يُطْلِق عليها أحد هذه التسمية.

إن استنكار الربا كان من الأغراض الدالة على أن وسائل جديدة في الإنتاج والتبادل بدأت تعمل على تقويض دعائم النظام الإقطاعي.

وعلى أية حال فإن اقتصاد القرون الوسطى لم يكن يستطيع التملص من اتباع التعاليم الكنسية التي كانت جزءاً من النظام الأخلاقي المسيحي، كما إنه كان - في الوقت نفسه - خاضعاً ومقيداً بالأعراف الإقطاعية السائدة، ولذلك كان حتماً أن ينهار بانهيار الكنيسة والإقطاع.

ولا شك أن الكنيسة ارتكبت خطأ فادحاً بإقرارها للواقع السيئ، وعدم وضع سياسة اقتصادية عامة وعادلة تستمد أصولها من الدين، كما أن سلوكها الذاتي وطغيانها المالي الفظيع قد جعلاها قدوة للظالمين، ومحط أنظار المقت والحقد من المظلومين.

وإذا حاولنا تحديد النظرية العامة للكنيسة إجمالاً - مع استثناء مسألة الربا وملحقاتها - فإن أقرب وصف يفي بالمراد هو أنها نظرية طبيعية إقطاعية، ومن اليسير إدراك أن هذه النظرية لم يكن لها منهج مستقل، بل كانت تستمد من الأسس الأخلاقية العامة.

صورة مجملة لنظام الإقطاع:

إن النظام الذي هيمن على الحياة الأوروبية طوال القرون الوسطى، وعاصر شباب المسيحية، وشكَّل بالاندماج معها ملامح القارة الأوروبية آنذاك هو نظام الإقطاع، ونظام الإقطاع الأوروبي يأتي في طليعة الأنظمة الجاهلية التي لا ينفك عنها الظلم، ولا ينفصم عنها الطغيان، والإنسان في ظله مسلوب الإرادة مهدر الكرامة ضائع الحقوق.

والواقع أن الدول التي تتكون منها القارة الأوروبية لم تكن في الحقيقة إلا مجموعة من الإقطاعيات تخضع لملك أو إمبراطور مركزي، جل همه أن يحصل على الضرائب والجنود من السيد مالك الإقطاعية.

ومع ملاحظة أن هذا النظام تختلف صوره باختلاف العصور والأقاليم، فإن ملامحه العامة وجوهره الموحد يمكن أن يحصرا في تقسيم المجتمع طبقتين:

إحداهما في قمة الترف.

والأخرى في حضيض العوز.

وكل طبقة تتألف من طائفتين:

فالطبقة العليا هي طائفتا السادة الملاك ورجال الكنيسة.

والطبقة الدنيا: هي طائفتا العبيد ورقيق المجتمع، ومن هذه الأخيرة صغار القساوسة والزهاد من رجال الكنيسة.

أما حقوق وواجبات كل فرد من هذه الطبقات فكما يلي:

1-السيد المالك: هو المسيطر الفعلي وصاحب النفوذ القوي في هذا النظام، وقد كان يملك حقوقاً لا حصر لها في حين ليس عليه أي واجبات:

(كان من حقه أن يضرب رقيق أرضه أو يقتله في بعض الأماكن أو الأحوال دون أن يخشى عقاباً، وكانت له في أملاكه كل السلطات القضائية والعسكرية، وكان يستفيد فوق ما يجب من الغرامات التي تفرضها محاكم الضيعة ... وكان في وسع السيد الإقطاعي أن يمتلك أكثر من ضيعة واحدة ... وقد يكون له قصر حصين في كل واحدة منها، وكان قصره يهدف إلى حماية سكانه أكثر مما يهدف إلى راحتهم ... يحيط به خندق عميق عريض وسور متصل عال وأبواب حديدية؛ وفي وسطه برج حجري دائري يسكن فيه السيد وأسرته، وكانت جدرانه الحجرية المنيعة عماد قوة الملاك ضد مستأجريهم وضد الملك.

وكان الرجل الذي يمنعه كبرياؤه من أن يكون رقيق أرض، ولكنه أضعف من أن يعد لنفسه وسائل الدفاع العسكرية، يؤدي مراسم الولاء لشريف إقطاعي، يركع أمامه وهو أعزل عاري الرأس، ويضع يديه في يدي الشريف، ويعلن أنه رجل ذلك الشريف، ثم يقسم على بعض المخلفات المقدسة ... أن يظل وفياً للسيد إلى آخر أيام حياته، ثم يرفعه السيد ويقبله) ([2]).

وكون الإنسان مالكاً نبيلاً لا يعتمد على جهوده الذاتية، ولا هو مما يمكن اكتسابه، فالنبيل يولد نبيلاً ويظل كذلك إلى الموت، والعبد يولد عبداً ويعيش حياته كلها في أغلال العبودية، أي إن المجتمع الإقطاعي يقوم بتوزيع أعضائه على العامل الوراثي وحده، إلا إذا طرأ تبدل فجائي كامل على الحياة فينقطع، لكنه يعود إلى التحكم فور استقرار الأوضاع.

2- رجل الدين: كان رجل الدين بسلطته الروحية سيداً إقطاعياً إلى حد ما، وكان يملك الإقطاعيات، ويتحلى بالألقاب الإقطاعية، ويورث مرتبته لذريته.

3- العبد: أباحت الكنيسة استرقاق الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي، وكان آلاف من الأسرى الصقالبة أو المسلمين يوزعون عبيداً على الأديرة ... وكان القانون الكنسي يقدر ثروة أراضي الكنيسة في بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساوي من المال، فقد كان العبد يعد سلعة من السلع كما يعده القانون الزمني سواء بسواء، وحرم على عبيد الكنائس أن يوصوا لأحد بأملاكهم ... وحرم البابا جريجوري الأول على العبيد أن يكونوا قساوسة، أو أن يتزوجوا من المسيحيات الحرائر... وكان القديس توماس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم([3]).

وإذا كان هذا هو نظر الكنيسة التي تنادي بالمحبة والرحمة فما بالك بمعاملة السيد رجل الدنيا لعبيد إقطاعيته...؟

4- رقيق الأرض: لم يكن رقيق الأرض عبداً بمعنى الكلمة، لكن حاله لا يختلف عن العبد في شيء، والفارق بينهما أن العبد - في الأصل - إما أسير مغلوب وإما مخالف للسيد في الدين أو الجنس أو المذهب، بعكس الرقيق الذي هو أصيل في الإقطاعية، وينتمي إلى الدين والجنس اللذين ينتمي إليهما سيده.

والأصل في رقيق الأرض أنه رجل يفلح مساحة من الأرض يمتلكها سيد أو بارون، وكان في وسع المالك أن يطرده متى شاء، وكان من حقه في فرنسا أن يبيع الرقيق مستقلاً عن الأرض ... أما في إنجلترا فقد حرم من مغادرة الأرض، وكان الذين يفرون من أرقاء الأرض يعاد القبض عليهم بنفس الصرامة التي يعاد بها القبض على العبيد، وهذا الصنف هو الصنف الغالب في الإقطاعيات، بل هو في الحقيقة يمثل مجموع سكان أوروبا تقريباً باستثناء النبلاء ورجال الدين.

هذا هو نظام الإقطاع الذي قامت على أنقاضه الحياة اللادينية المعاصرة، ومهما عدد الباحثون من سيئاته ومظالمه فإن أعظمها أثراً في الحياة والفكر أمران:

1- ارتباط النظام الإقطاعي بالدين:

من الوجهة التاريخية كان النظام الإقطاعي في عنفوان شبابه، في الفترة نفسها التي كانت المسيحية فيها في أوج عظمتها، ثم كان انهيار النظام موازياً لانهيار الكنيسة، واستنتجت الجاهلية الحديثة من ذلك معادلة خاطئة هي:

إن المجتمع الإقطاعي طبقي ظالم، لأنه متدين، وإذن فزوال الظلم من المجتمع يستلزم نبذ الدين كلية، أو على الأقل عزله عن التأثير في مجريات الأحداث؛ وتلك كانت نظرية الكتاب الطبيعيين الذين وضعوا نواة الفكر الرأسمالي الحديث.

وتطرفت الشيوعية فنسبت للدين دوراً إيجابياً في إرساء قواعد الظلم الإقطاعي؛ بل حملت الدين كامل مسئولية تأخر الوعي الطبقي وعرقلة جهود الطبقة الكادحة، فلم تكتف بالقول بأن الدين يقر الظلم ويوادعه؛ بل جعلت الدين أفيون الشعوب الذي يشل حركتها النضالية، ويعوقها عن المطالبة بحقوقها!

2- طابع الثبات المطلق:

كان النظام الإقطاعي نظاماً ثابتاً إلى درجة الجمود: ثابت التوزيع الاجتماعي، ثابت الحقوق والواجبات، ثابت الأخلاق والتقاليد، ثابت الأفكار والمعارف، ثابت الأحوال المعيشية، وكان ذلك مدعاة لأن يصطدم هذا النظام بسنة الله في الكون وفي سير التاريخ، فقد تزعزع هذا الثبات بالنهضة العلمية وحركة الإصلاح الديني، ثم نسف من أساسه بانفجار قنبلة التطور سنة 1859 كما سبق، وقد شبه كتاب تاريخ البشرية انتقال أوروبا من الثبات إلى التطور بسفينة كانت راسية في ميناء وادع ثم ابحرت في خضم صاخب إلى غاية مجهولة بغير خريطة.


 

المبحث الثالث

النظام الاقتصادي الرأسمالي*

 

أ- تعريفه:

يعرف النظام الاقتصادي الرأسمالي بتعريفات كثيرة وذلك لتعدد خصائصه ومؤسساته. وقد اخترنا التعريف الآتي لعله أفضلها وأدقها:

(نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على أساس تنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها).

أو: (النظام الاقتصادي الذي يمتلك فيه الأفراد آحاداً أو جماعات الموارد الإنتاجية ملكية خاصة، كما أن لهم الحق في استخدم مواردهم بأية طريقة يرونها مناسبة).

في هذا التعريف نجد الباحث استخدم تعبير (الموارد الإنتاجية) بدلاً من رأس المال وذلك لشموليته، فالموارد الإنتاجية تشمل كل ما ينتجه الإنسان من أدوات ومعدات ومبان استثمارية، كما تشمل كل ما هو موجود في الطبيعة من أراض ومعادن وغيرها.

كما إنه من خلال هذا التعريف نستشف أن الملكية الخاصة والحرية في النشاط الاقتصادي من أهم أسس النظام الرأسمالي.

ب- نشأته:

يكشف التطور التاريخي للنظام الرأسمالي بأنه من أقدم النظم الاقتصادية الوضعية ظهوراً، وقد مر بمراحل متعددة، يمكننا أن نبرزها في النقاط التالية:

مرحلة الرأسمالية التجارية:

يمثل المذهب التجاري أو الرأسمالية التجارية البداية المبكرة للرأسمالية في المجتمع الأوروبي، وقد ظهرت الرأسمالية التجارية من بداية القرن السادس عشر وامتدت حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.

وقد ساعد على ظهورها عدة عوامل داخلية وخارجية، يمكننا أن نجملها في النقاط التالية([4]):

(1) انهيار النظام الإقطاعي، بسب هروب رقيق الأرض من الريف الزراعي إلى المدن، لأنهم لم يستطيعوا تحمل الطلبات المتزايدة من قبل أسياد الإقطاع، والتي كانت تستنفذ كل منتجاتهم ومجهوداتهم.

(2) الاكتشافات الجغرافية الكبرى والمتمثلة في:

(أ) اكتشاف القارة الأمريكية سنة (1493 م) وما أسفر عنه ذلك من اكتشاف مناجم الذهب الغنية هناك، حتى أصبح تدفق المعدن النفيس منها إلى المجتمع الأوروبي عاملاً مهماً في اتساع دائرة التبادل النقدي في المجتمعات الإقطاعية في أوروبا، الأمر الذي أثر سلباً على الاقتصاد الإقطاعي، لأنه اقتصاد عيني تحصل فيه المبادلات بصورة عينية، حيث أصبح التجار يستخدمون العمال في نظير أجور نقدية، كما أصبح أسياد الإقطاع أنفسهم يشترون من التجار السلع ويدفعون ثمناً نقداً، ويبيعون مالهم من حقوق إقطاعية عينية في نظير مبالغ نقدية، بشكل تحطمت معه رابطة التبعية، وما تفرضه من التزامات مالية، وتحطم معها نظام رقيق الأرض، الذي هو أساس النظام الإقطاعي.

(ب) اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند والشرق الأقصى (1498 م) وما أسفر عنه ذلك من فتح الطريق بحراً نحو تلك الدول، ومن ثم فتح آفاق جديدة للتجارة الخارجية التي كانت كاسدة منذ قرون، الأمر الذي زاد من ثراء طبقة التجار الرأسماليين.

(3) الاحتكاك بالحضارة الإسلامية أثناء الحملات الصليبية، حيث يكاد يجمع المؤرخون على أن الحروب الصليبية كان لها أكبر الأثر في التطور الأوروبي، أنها أتاحت الفرصة أمام الدول الأوروبية لمعرفة ثروات العالم الإسلامي، وإمكاناته الاقتصادية، ومن ثم كان انتهاء هذه الحروب إيذاناً بقيام صلات تجارية وفتح منافذ تصديرية بينها وبين العالم الإسلامي.

وهكذا شهدت أوربا في هذه المرحلة فجراً لعهد اقتصادي جديد يختلف اختلافاً جذرياً عما عرف في ظل النظام الإقطاعي، وقد ساد الاعتقاد في هذه الفترة بأن قوة الدول تكمن في مقدار ما تملكه من الذهب وغيره من المعادن النفيسة، ولهذا اهتم التجاريون اهتماماً خاصاً بالتجارة الخارجية، حتى أصبحت حجر الزاوية في النظام الرأسمالي الجديد، ولذلك سميت الرأسمالية في هذه الفترة بالرأسمالية التجارية، ومن ثم أكدوا على ضرورة تدخل الدولة في التجارة الخارجية، بغية تحقيق فائض في ميزانها التجاري، وانتهجوا سياسة الانفتاح من جانب واحد، وتمثلت في تشجيع الصادرات، حتى يرد الذهب والفضة من الخارج، وتقييد الواردات، لكي لا تتدفق هذه المعادن إلى الخارج. وهي السياسة التي تسمى بلغة الاقتصاد المعاصر بسياسة إفقار الجار.

مرحلة الرأسمالية الصناعية:

كما اتضح مما سبق أن الاقتصاد الأوروبي قد تطور من مرحلة الاقتصاد الإقطاعي إلى مرحلة الرأسمالية التجارية، ولكن الرأسمالية لم تقف عند هذا الحد بل تطورت ونمت، حتى وصلت في القرن الثامن عشر إلى الرأسمالية الصناعية، نتيجة الثورة الصناعية، التي ظهرت في منتصف هذا القرن، والتي أدت إلى التعجيل بنهاية الرأسمالية التجارية من جهة، وإلى تغيير وتطور الفن الإنتاجي من جهة أخرى حتى أصبح هناك زيادة هائلة في ميادين الإنتاج المختلفة، نتيجة إحلال الآلات الصناعية محل العدد اليدوية والأدوات البسيطة التي كانت مستخدمة من قبل في الإنتاج، الأمر الذي جعل قطاع الصناعة نتيجة هذا التطور في الفن الإنتاجي مغرياً للاستثمارات، حيث جذب الكثير من رؤوس الأموال إليها، ولهذا سميت الرأسمالية في هذه الفترة ـ والتي مازالت قائمة ـ باسم الرأسمالية الصناعية.

وقد اعتمد النظام الرأسمالي في هذه الفترة ـ الرأسمالية الصناعية ـ على الحرية الاقتصادية التي نادى بها آدم سميث، الذي ظهرت أفكاره وسط هذا التطور، حيث دعا إلى إلغاء كافة القيود التي كانت تفرض على التجارة الداخلية والخارجية، وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، كما كان الأمر في ظل الرأسمالية التجارية، إلا بما يكفل الأمن والعدالة وحماية الملكية الفردية، غير أن هذا النظام الرأسمالي الذي يعتمد على الحرية الاقتصادية المطلقة وبشكله الكلاسيكي القديم لم يعمر طويلاً في الدول الرائدة في النظام الرأسمالي في ذلك الوقت، كبريطانيا وأمريكا ـ فلم يعمر في بريطانيا على سبيل المثال لأكثر من نصف قرن وهو النصف الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي ـ وإنما أدخل عليه بعض التعديلات والتدخلات الحكومية لمعالجة مساوئه.

إذ كانت الدول الرأسمالية تفرض الرسوم الجمركية، وتمنح الإعانات والدعم لبعض القطاعات الاقتصادية، كما كانت تحدد أسعار بعض النشاطات الاقتصادية ذات النفع العام كالكهرباء والماء والغاز.

كما أنها مازالت تستخدم السياسة النقدية والمالية، كأداة من أدوات التدخل الاقتصادي، وذلك للحيلولة دون حدوث أزمات اقتصادية معينة، إذ إنها في خلال فترات الكساد الاقتصادي وتفشي البطالة تسارع إلى خفض سعر الفائدة، بالقدر الذي يؤدي إلى زيادة حجم الاستثمار، وإلى زيادة الإنفاق العام، ومنح المساعدات المالية، والتوسع في المشروعات العامة، بشكل يسهم في النهاية في زيادة القوة الشرائية في المجتمع، فتنشط حركة الاقتصاد ويرتفع مستوى الطلب الفعلي، بينما في حالة فترات الرواج الاقتصادي وظهور بوادر التضخم تسارع إلى كبح جماح التضخم عن طريق رفع سعر الفائدة، والحد من إنفاقها العام.

وبهذا التدخل من قبل الدولة الرأسمالية انتهت مرحلة الحرية التجارية المطلقة، ودخل النظام الرأسمالي في مرحلة أصبح فيها التدخل الاقتصادي أمراً مقبولاً في الدول الرأسمالية، بالرغم من أنه كان مرفوضاً في الأصل من قبل المنظرين لهذا النظام، خاصة آدم سميث وتلاميذه، إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن هذا التدخل لا يصل إلى درجة القضاء على جوهر النظام الرأسمالي، وإنما لم يعد بهذا التدخل يحتفظ بشكله الكلاسيكي القديم المفرط في الحرية الاقتصادية المطلقة.

جـ - أبــرز الشخصيـــات:

كانت أوروبا محكومة بنظام الإمبراطورية الرومانية التي ورثها النظام الإقطاعي، ثم ظهرت ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر الطبقة البورجوازية تالية لمرحلة الإِقطاع ومتداخلة معها.

وقد تلت مرحلة البورجوازية مرحلة الرأسمالية وذلك منذ بداية القرن السادس عشر ولكن بشكل متدرج.

فلقد ظهرت أولاً الدعوة إلى الحرية وكذلك الدعوة إلى إنشاء القوميات اللادينية والدعوة إلى تقليص ظل البابا الروحي.

لقد ظهر المذهب الحر (الطبيعي) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في فرنسا حيث ظهر الطبيعيون.

ومن أشهر دعاة هذا المذهب:

- فرانسوا كيزني (1694 - 1778) ولد في فرساي بفرنسا، وعمل طبيباً في بلاط لويس الخامس عشر، لكنه اهتم بالاقتصاد وأسس المذهب الطبيعي، نشر في سنة (1756 م) مقالين عن الفلاحين وعن الجنوب، ثم أصدر في سنة (1758 م) الجدول الاقتصادي وشبَّه فيه تداول المال داخل الجماعة بالدورة الدموية، قال ميرابو حينذاك عن هذا الجدول بأنه: (يوجد في العالم ثلاثة اختراعات عظيمة هي الكتابة والنقود والجدول الاقتصادي).

- جون لوك (1632- 1704) صاغ النظرية الطبيعية الحرة حيث يقول عن الملكية الفردية: (وهذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإِنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة).

- ومن ممثلي هذا الاتجاه أيضاً تورجو وميرابو وجان باتست ساي وباستيا.

* ثم ظهر بعد ذلك المذهب الكلاسيكي الذي تبلورت أفكاره على أيدي عدد من المفكرين الذين من أبرزهم:

- دافيد هيوم (1711- 1776 م) صاحب نظرية النفعية التي وضعها بشكل متكامل والتي تقول بأن (الملكية الخاصة تقليد اتبعه الناس وينبغي عليهم أن يتبعوه لأن في ذلك منفعتهم).

- آدم سميث (1723- 1790 م) وهو أشهر الكلاسيكيين على الإِطلاق، ولد في مدينة كيركالدي في اسكوتلنده، ودرس الفلسفة، وكان أستاذاً لعلم المنطق في جامعة جلاسجو، سافر إلى فرنسا سنة (1766 م) والتقى هناك أصحابَ المذهب الحر. وفي سنة (1776 م) أصدر كتابه (بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأم) هذا الكتاب الذي قال عنه أحد النقاد وهو (أدمون برك): (إنه أعظم مؤلف خطه قلم إنسان).

- دافيد ريكاردو (1772- 1823) قام بشرح قوانين توزيع الدخل في الاقتصاد الرأسمالي، وله النظرية المعروفة باسم (قانون تناقص الغلة) ويقال عنه إنه كان ذا اتجاه فلسفي ممتزج بالدوافع الأخلاقية لقوله: "إن أي عمل يعتبر منافياً للأخلاق ما لم يصدر عن شعور بالمحبة للآخرين".

- روبرت مالتوس (1766- 1830 م) اقتصادي إنجليزي كلاسيكي متشائم صاحب النظرية المشهورة عن السكان إذ يعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية كما سيؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكن.

- جون استيوارت مل (1806- 1873 م) يعدُّ حلقة اتصال بين المذهب الفردي والمذهب الاشتراكي فقد نشر سنة (1836 م) كتابه (مبادئ الاقتصاد السياسي).

- اللورد كينز (1883 – 1946 م) صاحب النظرية التي عرفت باسمه والتي تدور حول البطالة والتشغيل والتي تجاوزت غيرها من النظريات إذ يرجع إليه الفضل في تحقيق التشغيل الكامل للقوة العاملة في المجتمع الرأسمالي، وقد ذكر نظريته هذه ضمن كتابه (النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود) الذي نشره سنة 1936 م.

د - أسس وخصائص النظام الاقتصادي الرأسمالي:

تعتبر الحرية الاقتصادية والملكية الفردية وحافز الربح من أبرز أسس وخصائص النظام الرأسمالي، وفيما يلي نناقش ذلك بشيء من التفصيل([5]):

1-   الحرية الاقتصادية: يكفل النظام الرأسمالي الحرية الاقتصادية للفرد، سواء من حيث النشاط الاقتصادي الذي يزاوله أو من حيث الاستهلاك الذي يرغبه، أو من حيث الإنفاق أو الاستثمار الذي يناسبه، فليس للدولة في المجتمع الذي يسوده النظام الرأسمالي حق التدخل ووضع القيود والعراقيل أمام الفرد، عندما يقوم بأي تصرف من التصرفات السابقة، فالقرارات الخاصة بالعمل والإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار يتخذها الفرد بنفسه، وفي ضوء ما يراه مناسباً له.

2-   الملكية الخاصة: تعتبر الملكية الخاصة حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، الذي يعطي الفرد الحق في تملك أموال الاستهلاك والإنتاج، وأي شيء ذي أهمية اقتصادية، وبالطرق القانونية، حتى أضحت المشروعات الغالبة في النظام الرأسمالي هي المشروعات الخاصة.

ولا يعزب عن البال أن الملكية الخاصة في النظام الرأسمالي أسهمت في زيادة الإنتاج، وفي تشجيع جمع وتراكم الثروة والمحافظة عليها، إلا أن الملكية الخاصة المطلقة لها مساوئها، إذ إنها تؤدي إلى الفوارق الكبيرة في الثروات والدخول بين أفراد المجتمع، إذا ما تركت بدون قيود، كما هو الحال في النظام الرأسمالي، الأمر الذي يجعل الحياة الرأسمالية ميدان سباق، مسعور ومحموم، بين فئة تملك أدوات الإنتاج، ولا يهمها إلا جمع المال من كل السبل ولو أضرت بالآخرين، وأخرى محرومة، لا تملك، بل تظل تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من التراحم، والتكافل، والتعاطف المتبادل.

ولا يعني هذا أن الاقتصاد الإسلامي ينكر مبدأ الملكية الخاصة والتفاوت في الدخول الفردية،  بل إنه يقر هذا المبدأ، طالما أنه تم بالطرق المشروعة والمباحة التي لا تضر بالآخرين، لقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:  32]، إلا أن الاقتصاد الإسلامي وهو يقر هذا التفاوت ولا ينكره، فإنه في نفس الوقت يسعى إلى تضييقه، وعدم اتساعه، لأن هذا التفاوت وهذه الفروق إذا تركت وشأنها دون التخفيف من اتساعها وحدتها أصبحت عوامل للهدم، ووسائل للتحطيم، كما هو الحال المشاهد في الرأسمالية.

وهذا ما أدركه التشريع الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فعندما اعترف بالملكية الفردية جعل فيها وظيفة اجتماعية، أو بمعنى آخر فرض عليها التزامات وواجبات، لصالح الفئة المحرومة، أو الفقيرة في المجتمع، الأمر الذي يسهم في النهاية في التقريب بين المتفاوتين فلا يكون هناك غنى مطغٍ ولا فقر منسيٍ، في المجتمع الذي يتبع شريعة الإسلام.

3-   حافز الربح: يعتبر البحث عن أكبر ربح ممكن غاية النظام الرأسمالي، إذ أنه هو المحرك الرئيس لأي نشاط اقتصادي، إلى درجة أن أصبح الفرد في ظل النظام الرأسمالي يتجه إلى الإنتاج مسترشداً باعتبارات أكبر ربح ممكن، لا باعتبارات إشباع الحاجات الأساسية أو الضرورية للبشر، لأنه لم تعد تحركه  سوى الأثمان السوقية والاعتبارات الاقتصادية البحتة، وإن ترتب على ذلك إهدار للقيم الروحية أو الأخلاقية في المجتمع، حيث يظل محكوماً ومعتمداً على قرار السوق وحجم الطلب، فإذا كان هناك طلب على نادٍ للقمار مثلاً فإنه يسارع في إنشاءه، وإذا كان هناك طلب على الخمر فإنه يسارع كذلك إلى إنشاء البارات، وتوظيف الأموال في إنتاجه وتسويقه. إلى درجة أن البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب يجعل المنتج أو المستثمر في ظل النظام الرأسمالي لا يميز بين السلع الطيبة والسلع الخبيثة([6]).

وليس معنى ذلك أن الاقتصاد الإسلامي ينكر مبدأ حافز الربح، أو يتجاهل جهاز الثمن، وإنما ينكر استخدام الوسائل الضارة لتحقيق هذا الربح، كما ينكر أيضاً إنتاج السلع الضارة التي لا يترتب عليها منفعة حقيقية للمجتمع.

باعتبار أن أوجه النشاط الاقتصادي في الإسلام محكومة بقاعدة الحلال والحرام، وهي القاعدة التي تسد كل منافذ الشهوات، وأنواع السلوك غير السوي أو الضارة التي تبدد جانباً مهماً من موارد المجتمع.

فقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].

هـ - مساوئ النظام الاقتصادي  الرأسمالي:

على الرغم مما يتضمنه النظام الرأسمالي من مجموعة من الأسس والخصائص والتي تبدو في ظاهرها صالحه ومغرية للفطرة للبشرية كالملكية الفردية والحرية الاقتصادية وحافز الربح إلا أن له مساوئ عديدة أهمها ما يلي:

أ ـ إهمال الجوانب الأخلاقية والدينية والإنسانية في النظام الرأسمالي، إلى درجة أنه يؤثر الكسب الاقتصادي ولو على حساب الأخلاق ومقتضيات الإيمان وحياة الإنسان.

ب ـ يؤدي إلى التفاوت الكبير في الدخل والثروة وتركزها في يد فئة قليلة.

ج ـ يؤدي إلى فرض السيطرة الاحتكارية في السوق، إلى درجة أن الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية يسيطر عليه عدد محدود من الشركات الاحتكارية الكبرى، مما يعطيها القدرة على فرض الأسعار والهيمنة على الاقتصاد.

د ـ من الانتقادات الرئيسة لهذا النظام أنه دائم التعرض للتقلبات الاقتصادية الحادة وظهور مشكلات البطالة والتضخم والمديونية، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على العديد من أفراد المجتمع خاصة أولئك الذين لا يملكون إلا خدمة العمل.

 


 

المبحث الرابع

النظام الاقتصادي الاشتراكي*

أ- تعريفه:

لفظ الاشتراكية يعني الكثير من المعاني المختلفة، فقد يطلق أحياناً على مجرد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، فتكون الاشتراكية بذلك نقيضاً لسياسة الحرية الاقتصادية، كما يستعمل أحياناً للدلالة على تدخل الدولة من أجل تحسين حالة العمال والطبقات الفقيرة في المجتمع، وذلك بسن التشريعات التي تخفف عنهم أعباء الحياة، وتمنحهم بعض المزايا، وبهذا المعنى تصبح الاشتراكية ضرباً من ضروب إصلاح خلل النظام الرأسمالي، وبشكل عام يمكن تعريف النظام الاقتصادي الاشتراكي بأنه:

النظام الذي يتميز بتملك الدولة لعوامل الإنتاج (أي الملكية الجماعية) كالأراضي والآلات والمصانع، وتتخذ جميع القرارات الاقتصادية فيه من خلال جهاز التخطيط، ومن هنا جاءت تسمية هذا النظام بنظام التخطيط المركزي([7]).

وهو بذلك يختلف كل الاختلاف عن النظام الرأسمالي، الذي يعتمد على مبدأ حرية تملك الأفراد لكافة عناصر الإنتاج.

ب- نشأته:

توصل عدد من المفكرين في القرن التاسع عشر إلى أن الملكية الخاصة وسوء توزيع الثروة هما السبب في البؤس والشقاء الذي تعيشه بعض فئات المجتمع الأوروبي. ومن أبرز هؤلاء كارل ماركس (1818-1883 م)، وتجدر الإشارة إلى أن مؤرخي الفكر الاقتصادي يفرقون بين نوعين من الاشتراكية:

1 ـ الاشتراكية الخيالية التي لم يستند دعاتها إلى منطلق علمي وتحليل دراسة، وإنما تأثروا عاطفياً بمساوئ النظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، فحاولوا بأحلامهم وخيالاتهم إقناع الأفراد وأحياناً الحكومات بإقامة نظام ينقل الناس إلى مجتمع أفضل وأكثر رخاءً.

2 ـ الاشتراكية العلمية أو الماركسية نسبة إلى كارل ماركس (1818-1883 م)،  الذي نادى  بإلغاء الملكية الخاصة، باعتبارها في نظره أساس الشرور التي تعاني منها المجتمعات الرأسمالية.

جـ - أبــرز الشخصيـــات:

وضعت أسسها الفكرية النظرية على يد كارل ماركس اليهودي الألماني (1818 – 1883 م) وهو حفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس، وكارل ماركس شخص قصير النظر متقلب المزاج، حاقد على المجتمع، مادي النزعة.

من مؤلفاته:

عدد القراء : 2380