التصوف بين الإفراط والتفريط
تتنازع النظرة إلى التصوف، صور متعددة:
ففي حين يرى البعض أن مسألة التصوف ضرورية لتحقيق تزكية النفس وتهذيبها من ظاهر الإثم وباطنه، ويرى آخرون أنها انحراف صريح عن الإسلام وخروج عليه.
ولقد ظُلم التصوف الإسلامي في كثير من قراءات الناس له، ربما بسبب المصطلح - كما يذكر البعض - وربما بسبب انحراف بعض المنتسبين إليه.
وهذا الجزء من تراث المسلمين أصابه قسط كبير من الظلم، لا نغالي إذا قلنا لم يُصب بمثله جزء آخر من تراث حضارتنا.
وقد عرف تاريخ الفكر الإسلامي اتجاهات لنقد التصوف بعضها من داخله لتصحيح المسار، وبعضها من خارجه – وهو بيت القصيد - ذهب أهل هذا الأخير مذاهب، أحدها مَدَح حتى الأخطاء، وسوغها بالتأويل، وثانيها غض طرفه عن كل حسن في هذا التراث، فلم ير فيه إلا كل خلل وفساد، وانطلق من حالات فردية إلى حكم عام وموقف شامل، وثالثها توسّط، لكنه لم يكن على شهرة السابقين.
وقد عانى الفكر الصوفي من المذهبين الأولين، بل وحجب كلٌ جزءًا من الحقيقة عن الناس؛ الأمر الذي جعل كثيرًا من العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا ينادون بضرورة التزام منهج وسط بين الرفض المطلق والقبول المطلق.
وتعددت أشكال نداءاتهم، فمن قائل بضرورة المنهجية قبل الحكم والنقد، ومن قائل بضرورة التريث قبل الحكم على السابقين، ومن قائل بضرورة النظر إلى كل زوايا التصوف، واعتبار كل مراحله عند التقسيم.
التصوف صدق التوجه إلى الله بما يرضاه ومن حيث يرضاه.
وبالتعريف العلمي: علم يُعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل.
والصوفي مَن صفا قلبه من الكدر وامتلأ عقله من الفكر.
قال الجنيد: (الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح).
والتصوف تجلي ركن الإحسان الذي هو ثلث الدين.
أهمية دراسة التصوف
إن لدراسة التصوف أهمية خاصة، وأسباباً لها وجاهة ومن ذلك([1]):
1- إن التصوف يمثل جزءاً كبيراً في تراث المسلمين وفي تاريخهم فالدارس للحضارة الإسلامية وللتاريخ الإسلامي سوف يواجه بمساحة واسعة لهذا الجانب البارز في حياة المسلمين باختلاف الأزمنة والأمكنة لذا لا بد من دراسته والتعرف عليه والوقوف على سليمه من سقيمه.
2- كان التصوف ولا يزال أسلوباً ومنهجاً يدين به الكثير من الناس على مستوى الأفراد والجماعات ويتمثل ذلك بالطرق الصوفية المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين، فلا بد من دراسة ذلك لبيان النافع من الضار والهدى من الضلال، ولإصلاح ما يمكن إصلاحه من ذلك ورفض ما لا سبيل لقبوله، ولدراسة النظرات الصوفية المختلفة ونقدها نقداً بناءً.
3- يرى كثير من الناس أن التصوف يمثل الجانب الروحي عند المسلمين ويزعم بعضهم أنه السبيل لتحقيق سعادة الإنسان ولقبوله حلول ذات الله تعالى فيه أو اتحاده به أو ليصبح الإنسان الكامل الذي دعا إليه الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل).
وهو السبيل إلى صحة الإنسان النفسية وعلاجه من أمراض القلوب، كما أنه يقود إلى معرفة أسرار الوجود وخفايا النفوس.
4- إن كثيراً من الناس في المجتمعات الغربية والإسلامية يجدون في التصوف أياً كان طريقاً للهرب من الحياة المادية المتخمة بالشهوات إلى الزهد والبعد عن الماديات، وقد جعل ذلك جاذبية خاصة للمتمردين على الحياة المادية والبعد عن الرذائل طمعاً فيما عند الله عز وجل.
وإن كان السبيل القويم في ذلك هو طريقة الموازنة بين متطلبات الجسد وتطلعات الروح وليس الانغماس في الترف أو تركه بالكلية، قال صلى الله عليه وسلم: " صم وأفطر وقم ونم فإنَّ لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً "([2]).
5- للناس توجهات مختلفة فبعضهم مالوا إلى النظرية العقلية وهم الفلاسفة والمتكلمون وبعضهم الآخر مالوا إلى النظرية المادية التجريبية وهم التجريبيون والدهريون، واهتم الفقهاء بالأحكام الشرعية والصوفية ومالوا إلى النظرية الوجدانية القلبية أو الباطنية، فاستكمالاً لدراسة النظريات المختلفة لا بد من دراسة التصوف.
6- يرى كثير من الناس في التصوف طريقاً للهرب من أعباء الحياة ومشكلات العمل، وعزلة عن الناس نتيجة الفشل الاجتماعي، وتكاليف الحياة الأسرية، وطريقاً أسهل للكسب وخاصة صوفية الأرزاق.
7- كما يجد بعضهم في التصوف طريقاً للهرب من التكاليف الشرعية والواجبات الدينية وطريقاً للإباحية والمنكرات.
8- يجد كثير ممن يسعى إلى التقديس وإلى جمع الأتباع والخدم في التصوف طريقاً سهلاً، وذلك لما يعمقه كثير من مشايخ الصوفية في المريدين من ضرورة الطاعة المطلقة للشيخ وخدمته وتقديمه على كل شيء.
9- وبعض الساسة يجدون في التصوف طريقاً لجلب الاتباع عن طريق مشايخ الطرق الصوفية لما لهم عليهم من سلطان كبير، كما يجدون في اللجوء إلى المشايخ في الليل تكفيراً عما اقترفته أيديهم من معاصي في النهار.
10- تشتمل كتب الصوفية على كثير من الغرائب سواءً في الألفاظ أو القصص أو الأخبار وهذا يستهوي كثيراً من الناس، فلا بد من دراسة التصوف لنخلص من ذلك كله إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
11- إذا رأى بعضهم أن التصوف حق لا باطل فيه ولا بد منه، فنحن ندرسه لاقتفاء حقه، وإذا رأى بعضهم أن التصوف باطل لا حق فيه فنحن ندرسه لتجنب باطله والتحذير منه ورضي الله عن حذيفة بن اليمان الذي كان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"([3]).
لذا يجب علينا أن نبحث في التصوف وأن نبين ذلك للناس وخاصة للمتخصصين وأن ننصح من اختاره طريقاً وأن نبين له ما ينبغي أن يكون عليه من الحق وما يجب أن يبتعد عنه من الباطل.
موضوعه وثمرته
إن غاية التصوف أن يرتقي بالإنسان إلى تهذيب السلوك الإنساني، وكيفية السمو والارتقاء بالنفس البشرية بالتزكية والتصفية.
عن طريق علاج أمراض القلوب، وتصحيح المفاهيم والتصورات، وتقويم الجوارح وفق ضوابط الشريعة، والسمو الأخلاقي عن ملذات الدنيا وشهواتها للفوز برضا الله تعالى، ونيل سعادة الدارين.
ويسعى المتصوف إلى الوصول إلى مرتبة الإحسان حتى يكون رقيبه منه وفيه وعليه؛ بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
أصول التصوف:
يقوم على أصول خمس وهي([4]):
1- تقوى الله في السر والعلن.
2- اتباع السنة في الأقوال والأفعال.
3- الإعراض عن الخلق.
4- الرضا بما قسم الله تعالى.
5- الرجوع إلى الله في السر والعلن.
1- التصوف بمعنى الزهد:
- وقال معروف الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق([5]).
(2- التصوف بمعنى الأخلاق:
- وقال الكتاني: التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الصفاء.
3- التصوف بمعنى الصفاء:
- قال سهل بن عبد الله: الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر.
- وقال بشر الحافي: الصوفي من صفا لله قلبه.
4- التصوف بمعنى المجاهدة:
- وقال عمرو بن عثمان المكي: التصوف أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت.
5- التصوف التزام بالشريعة:
- قال أبو حفص: حسن آداب الظاهر عنوان حسن آداب الباطن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه")([6]).
موقف العلماء من التصوف
أ - طائفة من الناس نظرت إلى مساوئ القوم وأغمضت العيون عن محاسنها فقالوا بضلال الصوفيـة وردوا كلامهـم سواءً ما وافق الكتاب والسنة أو خالفهما وهذه الطائفـة كمـا يقول ابن القيم: (حجبت عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم)([7]).
ب - وطائفة أخرى نظرت إلى محاسن القوم وصدق معاملتهم وشفافية نفوسهم وحسن عبادتهم فأقبلت على علوم الصوفية وكتبهم وقصائدهم وقصصهم دون تمحيص مغمضة العيون عن عيوب القوم ومساوئهم، وهؤلاء كما يقول ابن القيم (حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم).
ج - وطائفة ثالثة وهم كما يسميهم ابن القيم أهل العدل والإنصاف الذين يقبلون من القوم ما يجدونه حسناً موافقاً للكتاب والسنة، ويردون ما خالف الكتاب والسنة ويردون على شطحات القوم.
وهذا الموقف هو الذي يجب أن يقفه كل مسلم.
فلا تحملنا حسنات القوم على قبول خطئهم وتحسينه.
كمـا يجـب أن لا تحملنا سيئـات بعض الصوفية على رد حق ذهبوا إليه، أو قالوا به.
بل الحكم العدل الذي بيننا هو الكتاب والسنة ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[ [النساء: 59]، وقال تعالى: ]وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ [المائدة: 8].
وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأسأل الله العلي القدير أن يهدينا سبل السلام، إنه على كل شيء قدير.
من التوصيات المقترحة:
أولاً: الالتزام بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في تزكية النفس.
ثانياً: السعي إلى تحقيق التوازن بين متطلبات الجسد وحاجات الروح.
ثالثاً: ضرورة المساهمة في خدمة المجتمع وتطوره وعدم الانزواء في الزوايا والتكايا.
رابعاً: العمل على إزالة الصورة السلبية التي رسمها بعض أتباع الطرق الصوفية.
([1]) بتصـرف عـن أصـول التصـوف/ عبـد الله حسين زروق، المركز القومي للإنتاج الإعلامي، 1995م – 1415هـ، ص7- 9.
([2]) صحيح البخاري فتح الباري، دار الفكر، حديث رقم 1975، كتاب الصوم، باب حق الجسد في الصوم. 4/217- 218.
([3]) صحيح البخاري فتح الباري، حديث رقم 3606، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/615.
([4]) يُنْظر: ابن تيمية وموقفـه مـن أهـم الفرق والديانات: د. محمد حرب، عالم الكتب، ط1، 1407هـ- 1987م، ص178.
([5]) عوارف المعارف للسهروردي، مطبعة السعادة، 313.
([6]) مدخل إلى التصوف الإسلامي: د. السيد عقيل بن على المهدلي، ط2، دار الحديث، ص 71.
([7]) مدارج السالكين، ابن القيم، ط المنار، 2/39، 40.
عدد القراء : 1870