shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

التَّعَصُّب

من التعصب السياسي نشأ التعصب المذهبي، وبه تأيَّد وتأبَّد

قُتِل عمر بن الخطاب باسم الدفاع عن العدالة

وقُتِل عثمان بن عثمان باسم الدفاع عن النزاهة

وقُتِل علي بن أبي طالب باسم الدفاع عن الوحدة

وذُبِح الإمام الحسين بن علي باسم المحافظة على الحكم

وصل التَّعَصُّب ببعضهم أنه إذا وَرَدَ عليه نص من الكتاب أو السنة على خلاف ما يعتقد  يجتهد في رَدِّه نصرة لمذهبه

كثير من الخصومات الفكرية مظهر للعلل النفسية أكثر مما هو خدمة للدين

أصبح التَّعَصُّب للمذاهب شنيعا، تُقَدَّم أقوال أصحاب المذاهب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله

ليس التعصب دليل التدين

الدين أداة فكرية تدعم القيم المجتمعية عن طريق القدوة والتعليم والإرشاد والترغيب والترهيب

التربية الدينية الخاطئة تعمل في تزييف الأهداف وفي جعلها أداة للشر الغريزي

بسبب التَّعَصُّب طعن بعض في نسب بعض

من أراد الموضوعية والإنصاف فليطرح عَن نَفسه التَّعَصُّب والاعتساف

 

التَّعَصُّب أحد أشكال سلوك الإنسان, لكنه سلوك لا يحبذه العقلاء والحكماء من الناس.

التَّعَصُّب داء الأمم والشعوب، وهو مرضها العضال، يمزقها ويشعل فيها نار الفتن، ويحرمها نور الهداية.

وهذا الشكل من السلوك يصدر من الإنسان مهما كانت عقيدته وانتماؤه, وبغض النظر عن المستوى المدني والحضاري للإنسان.

فلا ينبغي أن ينحصر التَّعَصُّب بدين معين, ولا بمستوى حضاري أو علمي أو اقتصادي محدد.

والتَّعَصُّب يعمي العقل, ويحجب الإنسان عن إعمال الفكر, ويسلب منه قدرة التبصر في اختيار الموقف السليم.

والتَّعَصُّب موقف غير عقلاني, ومناقض للعقلانية؛ لأنه موقف لا يستند على قوة البرهان, ومنطق الاستدلال, وليس من غايته البحث عن الحقيقة واكتشافها والتمسك بها, حتى لو كانت عند طرف آخر مغاير, ولأنه موقف يتسم بالتوتر والانفعال النفسي والذهني, ويغلب عليه منطق الغلبة والاحتجاج.

والتَّعَصُّب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يغلق عليه منافذ المعرفة, والوصول إلى علوم الآخرين ومعارفهم, واكتساب الحكمة أنى كان مصدرها ومنبعها.

والتَّعَصُّب يجعل الإنسان على قول واحد يتحيز إليه بشدة, وينافح عنه بغلظة, ولا يقبل الاستماع إلى قول آخر ينازعه, أو يتضايف معه, أو يتفاضل عليه.

والتَّعَصُّب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يحجب عنه اكتشاف عيوبه, والتعرف على نواقصه, والالتفات إلى ثغراته, والتنبه إلى نقاط الضعف فيه, وذلك نتيجة الاعتزاز بالذات, والتفاخر على الآخر, والانشغال بأجواء السجال والاحتجاج, وما يصاحبها من توتر وانفعال.

وفي هذه الحالة يظل يحمل في الإنسان ضعفه وعيوبه, وتبقى معه نواقصه وثغراته إلى أن تتفشى وتتراكم وتصل إلى وضع تنكشف فيه بشكل خطير.

والتَّعَصُّب لا يهدي الإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يجلب معه العداوة والبغضاء من الآخرين, ويورث الاحتقان والانقسام بين الناس, ويتسبب في خلق النزاعات والخصومات التي تهدر بدورها الطاقات والإمكانات بدون طائل وبلا ثمرة أو نتيجة, وهذا ما ينبه عليه ويحذر منه العقلاء والحكماء من الناس.

تعريف التَّعَصُّب لغة واصطلاحا:

التَّعَصُّب لغة: من العصبية، وَتَعَصَّبَ، أي: شَدَّ العِصَابة على رأسه([1]).

وأصل التَّعَصُّب في اللغة: أن يدعوَ الرجل إلى نُصرة عَصَبَتِهِ (أي قَوْمه) والتألُّب معهم على من يُناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين.

ولا يَخرج المعنى الاصطلاحيُّ للتعصُّب عن المعنى اللغوي؛ ذلك أن التَّعَصُّب يَعود إلى خَلَل فِكْرِيٍّ يدفع بعض الناس إلى تَوَهُّم أَفْضَلِيَّتِهِ على غَيْره، أو تصور أنه وَحْدَهُ هو الذي يملك الحقيقة والصواب، وأن غيره ينبغي أن يَتبعه.

أما اصطلاحاً:

هو الانحياز التحزبي إلى شيء من الأشياء، فكرةٍ أو مبدأٍ أو معتقدٍ، أو شخصٍ، إما (مع)، وإما (ضد) ([2]).

وفي تعريف آخر للتعصب أن تجعل ما يصدر عن شخص ما من الرأي ويُروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد([3]).

أو: (تبني فكرة خاصة، وإغلاق العقل عندها، وحمل الآخرين على الاعتقاد بها، مع رفض التنازل عنها).

والتَّعَصُّب للشيء، هو مساندته ومؤازرته، والدفاع عنه.

والتَّعَصُّب ضد الشيء، هو مقاومته.

ولكن في الغالب يرتبط مفهوم التَّعَصُّب في أذهان الناس بالجانب السلبي منهن حيث إن التَّعَصُّب في أساسه نظرة سلبية إلى الغير.

إن التقليد والتَّعَصُّب من أعظم أسباب التفرق والانحراف، ومن أهم العوامل التي أدت إلى انتشار العنف بين الناس.

والمتعصب يتجه إلى تحقير الآخرين وإلحاق الضرر بهم، أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياهم الخاصة أو الحصول على كسب منفعة خاصة.

وبالتعريف العلمي لمرض التَّعَصُّب الممقوت (السلبي) هو: (عدم قبول الحق عند ظهور دليله) ([4]).

ويعبر عنه بالتزمت والغلو في الحماس مع ضيق الأفق بعقيدة أو فكرة، مما يؤدي إلى الاستخفاف بالآخرين ومعتقداتهم والصراع معهم ومحاربتهم.

والأسوأ عند يُلبس التَّعَصُّب ثوب الدين، فيبدأ الترامي بالكفر فيما بين المتعصبين دون دليل من سُنَّة وقرآن، ولا لبيان من الله وبرهان.

حيث يُحْبَس الناس في جزئيات الشريعة، معتقدين أنها هي الدين كله، ولعل ذلك بسبب تعليم الشيوخ للناس، عندما يقولون لهم: حكم الله كا في هذه القضية، ورأي الدين كذا في هذا الموضوع، فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله المطلق.

والتَّعَصُّب جُمود في العقل، وانهيارٌ للفِكْر؛ لأنه لا يَسمح بالتعدُّدِيَّة الفِكْرية، وبالتالي فهو انتحار للعقل.

مع أن سُنَّة الفِكْر أن الآراء يَقدح بعضها بعضًا، ومن خلال التعدُّدِيَّة نصل إلى الأفضل، ونقف على السلبيات والعيوب في الآراء المعروضة.

والجمود على فكرة واحدة أو وجه واحد يقتل بقية الآراء والأفكار.

والتَّعَصُّب يلغي التفكير المفتوح (الحر) والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع على الخضوع والاستسلام والتبعية.

 

سمات التَّعَصُّب:

يشتمل التَّعَصُّب على عناصر سلبية وخطيرة؛ من أهمها:

1 - أنه حكم يفتقد للموضوعية، ويتسم بالتعميم أو التسطيح المخل.

2 - أنه يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والانطلاق من خلفية معينة.

3 - ينشأ في ظل سياق ثقافي واجتماعي تغيب فيه لغة الحوار ومبدأ الشورى والحرية.

 

أنواع التعصب:

1 – التعصب الفكري (الاعتقادي).

2- التعصب السلوكي.

 

ورود التَّعَصُّب في نصوص الوحي:

ذم التَّعَصُّب في دين الله:

إنَّ التَّعَصُّب في دِينِ اللهِ على وَجه التشدد وَالتصَلب ممنوع وَمَحظور؛ لأنه يترتب عَلَيه أمُور في كلِّ مِنها ضَرر ومحذور.

قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171].

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

وقالَ عَز وَجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

وَقالَ سُبحانه: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

التَّعَصُّب للمذهب قديم كان موجوداً في الأمم السابقة، حكى القرآن قول بعض أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 72 - 74].

ومن نصوص التَّعَصُّب للباطل، أن الناس لما افترقوا خَطَّأَ كل فريق منهم الآخرين، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].

إن التَّعَصُّب يسبب رفض الحق الذي مع الآخرين كحال اليهود الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91].

وكحال أهل الجاهلية الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم تعصباً لما عليه آباؤهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170].

التَّعَصُّب جاهليةٌ مَقِيتَةٌ، حَسَمَهَا الإسلام وقضى عليها من جذورها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَابٍّ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَؤُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ، أَوْ عَمِلٍ صَالِحٍ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيًّا بَخِيلًا جَبَانًا"([5]).

وذم النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم العَصَبِيَّة والتَّعَصُّب في كثير من أحاديثه،

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ"([6]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ([7])، يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ"([8]).

عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الشَّامِيِّ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا: فُسَيْلَةُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ"([9]).

فالأصل المساواة الإنسانية، فالأصل واحد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات/13]. واختلاف الألسنة والألوان من آيات الله الدالَّةِ على عَظَمَتِهِ وقُدرته: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]، ولكن شاءت قُدرة الله أن تَتَعَدَّدَ الأجناسُ والألوانُ والألسُنُ، دون أن يكون هذا سببًا في تفضيل بعض الناس على بعض.

فالتَّعَصُّب انغلاق وعُزْلة ... بل هو الموت للأمم.

وقد أبطل الإسلام كلَّ دَوَافع التَّعَصُّب وقضى عليها؛ فنهى عن التفاخُر بالآباء، أو التعالي بسبب الحَسَب والنَّسَب، أو تقديم العادات والتقاليد على الحق والعقل.

 

ذم التَّعَصُّب في أقوال بعض العلماء:

التَّعَصُّب صفة ذميمة، تحمل الإنسان على اتباع الهوى، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب، وتحجب عينيه عن رؤية الحق، فيخبط خبط عشواء، وقد ذمَّ العلماء التَّعَصُّب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك:

قال أبو نُعيم: (قاتل الله التَّعَصُّب ما أشنع إخساره في الميزان)([10]).

وقال ابن تيمية: (وأما التَّعَصُّب لأمر من الأمور بلا هدى من الله، فهو من عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)([11]).

وقال الشوكاني: (والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية منه)([12]).

وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي: (وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التَّعَصُّب)([13]).

 

نماج من التعصب المذهبي:

يزعم حامل التعصب المذهبي أن الحق محصور في المذهب الي يعتنقه، ويوجب على بقية المسلمين المتذهب به؛ كالذي فعله صاحب كتاب (مغيث الخلق في بيان المذهب الحق) في حصر الحق في المذهب الشافعي، وكالذي فعله صاحب (النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة).

ولا شك أن هذا أمر لا يتفق مع الدين أولاً ولا مع المذاهب ثانيًا.

 

أسباب التَّعَصُّب:

من حقائق الأشياء أن خلف كل دخان ناراً، ولكل داء دواء؛ فإذا تم تشخيص الداء والوقوف على أسبابه سهل علينا وصف الدواء، فوضع اليد على الأسباب هي نصف طريق العلاج كما يقولون، ومن أهم أسباب التَّعَصُّب ما يلي:

1 – ضحالة العلم، حيث يتم الاقتصار على الفتوى الصادرة من المتفق، مع تسفيه الآخرين.

2 – اعتقاد كل جماعة أو طائفة أنها الفرقة الحق، وأنها الفرقة الوحيدة الناجية والسالمة من الخطأ.

2 - اتباع الهوى والإعجاب بالرأي: فطبيعة متبع هواه والمعجب برأيه إذا علم أن رأيه خطأ ألاَّ يتنازل عنه ولا يعترف بالحق بل يتمسك بخطئه، ويزداد عناداً وإصراراً عليه، وإذا علم أن رأي غيره صواب فلا يعترف به حتى لو كان واضحاً وضوح الصبح لذي عينين، قال الشاعر:

يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضحُ

3 - تحقيق مآرب شخصية ومصالح دنيوية، كالطبيب الذي يريد أن يوسع دائرة مرضاه، والمحامي الذي يريد أن يكسب ثقة الناس حتى يتشاكوا إليه، والعالم الذي يريد أن يوسع دائرة شهرته ليجد لإنتاجه وكتبه وخطبه مريدين وقراءً ومستمعين، وهكذا...

فهذا الشخص لن ينظر إلى الحق والباطل، ولا إلى الخطأ والصواب، إنما هو ينصر الاتجاه الذي انتمى إليه ويتعصب له من أجل تحقيق مآربه ومصالحه بصرف النظر عن قضية الحق والباطل، وبعيداً عن تصحيح المسار والنقد الذاتي والتقويم النفسي.

4 - الجهل بالحياة، وهذه طامة كبرى، ومصيبة عظمى؛ لأنه لا يعلم أكثر من محيطه الضيق، ومن ثَم ينظر لمن يخالفه على أنه جاهلٌ لا علم له.

5 - اتباع الأشخاص والهيئات؛ فمن يتبع حزباً أو جماعة أو مؤسسة يرى أنها لا تخطئ في العمل، ولا تضل في الرأي فيتعصب لها تعصباً شديداً، ويحمل على من يحاول نقدها أو تصحيح وتقويم مسارها حتى لو كان من أبنائها.

والتَّعَصُّب لِلمَشَايِخِ عَلَى حِسَابِ الحَقِّ؛ قال تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَالمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التَّوْبَة: 31].

وكذلك إذا وثق في علم عالم، ورجاحة عقله، وفقهه للنص الشرعي وإدراكه للواقع العملي؛ فإنه يرى أنه لا ينطق عن الهوى، ولا يفتي إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، لا يقع منه زلل في القول أو العمل، ولا يصدر عنه خطأ في الفتوى أو الحكم، ولا يُظن به خطل في الرأي أو التصور، ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على البشر.

وتعصب المتأخرون غاية التَّعَصُّب حتى قال أبو عبد الله البوشنجي:

ومن شعب الإيمان حب ابن شافع ... وفرض أكيد حبه لا تطوع

أنا شافعي ما حييت وإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتشفعوا.

في حين أنه لم توجد ـ على امتداد التاريخ ـ هيئة أو مؤسسة أو جماعة إلا ولها أخطاؤها وإخفاقاتها، ولم ولن يوجد عالم إلا وله زلاته وكبواته، ويأبى الله إلا أن تكون العصمة له ولكتابه ورسوله.

 

مظاهر التَّعَصُّب:

1 - يرى المتعصب أنه هو الذي على الحق، وأن غيره على الباطل، مهما كثرت أو قَلَّت نقاط الاتفاق والاختلاف بينه وبين الآخرين. قال الله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]: حيث جعلوا التَّعَصُّب لما يدينون فوق كل اعتبار.

2 - تحويل المساجد ـ بيوت التوحيد والعبادة ـ إلى ساحات شجار بسبب قضايا فرعية خلافية، ويصف الصنعاني مظاهر ذلك قائلاً: (لم تكن الخلافات والنزاعات بين المقلدين مقتصرة على الآراء الفقهية فقط، بل بلغ بهم التَّعَصُّب إلى الحروب الطاحنة فيما بينهم) ([14]).

ويقول ياقوت الحموي وهو بصدد ذكر مدينة أصبهان: (وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتَّعَصُّب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين؛ فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ ولا ذمة، ومع ذلك فقد قلَّ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة) ([15]).

4 - ومن مظاهر التَّعَصُّب الانتصار للجماعة أو الحزب أو المذهب؛ فهي الحق على طول الخط.

5 - يرى المتعصب أن مدرسته التي ينتمي إليها مقدسة، وأن رجالها ملائكة معصومون، وتاريخها خالٍ من الأخطاء، مبرأٌ من العيوب، في حين يرى غيرَه من المدارس والجماعات سيئ المنهج، أسود التاريخ، ضيق الأفق، ضحل الفهم، متحلل الفكر.

يقول الشوكاني: (والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق؛ غفلةً منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقِّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم) ([16]).

 

ذم التعصب للأئمة في المسائل الاجتهادية

هناك أتباع للأئمة في فروع الشريعة هناك أتباع لـ أبي حنيفة، وأتباع لـ مالك، وأتباع للشافعي، وأتباع لابن حنبل، وأتباع لجعفر، وأتباع لزيد بن علي، وأتباع للأوزاعي، وأتباع للثوري، وأتباع لليث، وأشباههم.

فالحنفية يتعصبون لمذهبهم، والشافعية كذلك، وكذا الحنابلة والمالكية ونحوهم؟ فلماذا هذا التعصب وهذا التمذهب؟ أليس الدليل واحداً؟ أليس القصد والهدف واحداً؟ نقول: نعم، الهدف واحد، ولكن هذه الأشياء حدثت بسبب الاجتهاد، فهؤلاء اختاروا قولاً، وصار لهم مشايخ، ولهم كتب يرجعون إليها، فصار بعضهم يتمحل في رد الأدلة التي يستدل بها خصومهم، ويتعصب لمذهبه ومذهب إمامه.

فالبيهقي عالم محدث حافظ، ولكنه شافعي المذهب، فإذا جاء إلى المسألة التي فيها المذهب الشافعي استوفى الأحاديث التي فيها، ولا يزيد على الاستيفاء، وإذا خالفه مذهب أبي حنيفة، فإن صاحب الجوهر النقي يتعصب تعصباً شديداً، ويرد تلك الأحاديث، ونحن نعذر الإمام أبا حنيفة في مخالفته لتلك الأحاديث أو تلك الأدلة، ونقول: إما أنها لم تبلغه، وإما أنها لم تثبت عنده لما بلغته، ولم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وإما أنها بلغته ولكن ثبت عنده ما ينسخها أو ما يخالفها، وإن لم يثبت ذلك عند غيره، فهو معذور، ولكن لا يعذر أتباعه الذين تعصبوا له، وتشددوا في نصرة مذهبه، بل ردوا الأحاديث كما فعله صاحب الجوهر النقي هذا، وهو: ابن التركماني، وهو متأخر في حدود القرن الثامن.

وقد ذكر الله عن الأمم السابقة أن في علمائهم المخالفة الشديدة، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] الرهبان: هم العباد، والأحبار: هم العلماء.

ويقول الله تعالى في أهل الكتاب: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] فذمهم بأنهم يكذبون ويتقولون، وذمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأنهم كتموا ما أنزل الله.

وذمهم بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].

 

آثار التَّعَصُّب:

من البدهي أن يكون لهذه المظاهر آثار مدمرة على كل المستويات، ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:

1 - تأخر وتخلف المجتمع.

2 - الكراهية والتدابر والتحاسد والتباغض الذي سيسري بين أبناء المجتمع من جراء هذه المراشقات، وهو أمر يوقِع في مخالفة نصوص متفق عليها مثل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"([17]).

3 - الانكفاء على قضايا الداخل الذاتية الصغرى، وإهمال القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بواقع الأمة ومستقبلها.

 

علاج التَّعَصُّب:

معالم على طريق العلاج، من أبرزها:

1 - الفهم السليم لطبيعة الحياة وأن الإنسان مكمل لأخيه، وأن الهيئات والمؤسسات مكملة لبعضها، ومتعاونة ومتضافرة فيما بينها، وليست متنافرة ولا مختلفة.

يقول ابن القيم: (صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما).

2 - التجرد في الوصول إلى الحق والعمل به.

ونتذكر كلام الإمام أبي حنيفة؛ إذ كان يقول عند الإفتاء: (هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرت عليه؛ فمن جاء بأحسن منه فهو أوْلى بالصواب).

ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: (ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجْرِ الحق على قلبه ولسانه؛ فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته).

3 - أهمية الاحترام المتبادل ومراعاة أدب الخلاف؛ لأنه ليس هناك قطع بأفضلية أحد على أحد، وكل يؤخذ من قوله ويرد عليه.

قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [آل عمران: 66].

 

التسامح Toleration:

إذا ازداد التَّعَصُّب قلَّتِ الحرية، وضَعُفَ التسامح.

فالتسامح يمنح الإنسان حرية الضمير في إبداء الرأي واعتناق ما يحب ويرغب.

والتسامح لا يوجب على الإنسان أن يتخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها، أو الدفاع عنها، أو التَّعَصُّب الإيجابي) لها، بل يوجب الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والقسر.

التسامح هو المبدأ الي يتيح للإيمان الحق أفضل فرصة لأن يسود.

وقدَّم أروع مثال تجلى في أمرين:

أولاً: نظمه ومبادئه المعلنة، قال الله تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].

وقد قرر الإسلام وحدة الجنس البشري، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، ويقول رسول الله

ثانياً: تعامل أتباعه مع الغير من فجر أيامه إلى قمة انتصاراته، فقد كانت التوجيهات النبوية واضحة في الدعوة إلى التسامُح والتعاطُف والتراحُم والرِّفْق والعمل به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، ولا نُزعَ مِن شَيْءٍ إلا شانَهُ"([18])، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"([19]).

وبهذا التقرير النظري، والسلوك العملي يتم نقي أية دعوى للتعصب سواء للأجناس أو الألوان أو الأعراق.

وفي كتاب راسل به النبي صلى الله عليه وسلم  أساقفة نجران قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير! جوار الله ورسوله لا يُغَيَّر أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك. جوار الله ورسوله أبدًا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين»([20]).

وهذا الكتاب يبين مدى التسامح مع النصارى واحترام حقوقهم وأنهم لا يَظلمون ولا يُظْلَمون.

الإسلام يقف من غيره موقفًا معتدلاً، في السماحة، من غير ذل وهوان، وأتباع الإسلام لا تنطوي ضمائرهم على الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بالآخرين.

فبسماحة الإسلام يتعامل المسلم الحق مع الناس جميعًا على أساس العدل والاحترام المتبادل دون أن يكون ذلك على حساب الاستهانة بالعقيدة والشعائر.

 

مزايا أهل العلم:

وصف ابن قيم الجوزية أهل العلم والعدل والقسط بكونهم: (زاهدين في التَّعَصُّب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إخراج المتعصب عن زمرة العلماء إليه ولا يسألونه عما قال برهاناً)([21]).

ونقرأ في تجربة أحد العلماء المعاصرين الشيخ محمد الغزالي (الجزائري) الي عانى كثيراً من التَّعَصُّب، وواجهه بكل شجاعة، واكتوى بناره، وخرج بخلاصة مفادها: أن آفتين تفتك بالمتعصبين:

الأولى: العجز العلمي، (قلة المعرفة)، بحيث يحفظون نصاً وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى.

والأخرى: سوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك المعوج، ويغلب أن تكون آفات حب الظهور، والاستعلاء، أو رذائل القسوة والتسلط.

 

مقومات ثقافة السلام:

تحتاج إلى الحكمة والعلم

فسلوك أهل الحكمة وأولي الألباب أنهم يُعْرَفون باستماع القول, واتباع أحسنه, لأنهم من أهل الدراية والنظر, وفي غايتهم دائماً انتخاب واتباع الأحسن, طلباً للرشد والحق وإصابة الواقع, أما الذي يستمع قولاً واحداً فإنه بالتأكيد لا يهتدي إلى أحسن الأقوال.

والحكمة يصل إليها من يبحث ويفتش عنها, ويطلبها وتكون ضالته, والمؤمن هو أحق بها حتى لو وجدها عند من يختلف معه في العقيدة أو المذهب أو الدين, لأنه يطلب الحق والعدل والفلاح, ولسان حاله ما ورد عن نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ في قوله: (خُذُوا الْحَقَّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَلَا تَأْخُذُوا الْبَاطِلَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، كُونُوا مُنْتَقِدِينَ لِكَيْمَا لَا يَحُوزَ عَلَيْكُمُ الزُّيُوفُ) ([22]).

من الحكمة اكتساب العلوم والمعارف الطبيعية والتطبيقية.

إن طَوْقَ النجاة لهذه الأُمَّة في حياتنا المعاصرة يَكمن في وَعْيِ الأُمَّة بدورها في صياغة مشروعٍ حضاريٍّ مُتَمَيِّزٍ يَستفيد منَ الحضارات الأخرى ويضيف إليها، ولا يمكن ذلك إلا من خلال إبداع العقول والاجتهاد والتجديد، ولا يكون ذلك أبدًا مع التَّعَصُّب والانغلاق وضِيقِ الأُفُق الفِكْري، أو بتكفير المخالفين؛ لأن هذا ضدُّ الحضارة وضدُّ مسيرة الوعي ورحلة المعرفة والاجتهاد.

فمن آيات الله الدالَّةِ على عَظَمَتِهِ وقُدرته اختلاف الألسنة والألوان: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].

مَن نظر إلى الناس بعين الشريعة مَقَتَهم

ومَن نظر إلى الناس بعين الحقيقة عَذَرَهم

ومَن نظر إلى الناس بعين الله أَحَبَّهم

لا يحملنك التَّعَصُّب على كتمان شيءٍ من أدلة الخصوم، ولا على الطعن فيها

ليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً

وَقَانَا اللَّهُ شَرَّ التَّعَصُّب عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْحَقِّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ

 

 

([1]) الصحاح للجوهري (1/ 182).

([2]) الموسوعة العربية، مصطلح (التَّعَصُّب).

([3]) أدب الطلب ومنتهى الأدب للشوكاني، ص7.

([4]) قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، الناشر: الصدف ببلشرز – كراتشي، الطبعة: الأولى، 1407 - 1986.

([5]) سنن أبي داود، رقم الحديث (5121).

([6]) مسند الإمام أحمد، رقم الحديث (17313).

([7]) قوله: "تحت راية عمية" هي بضم العين وكسرها، لغتان مشهورتان، وهي الأمر الأعمى لا يستبين وجهُه أحقٌ هو أو باطل، والمعنى: يغضب ويقاتل ويدعو غيره كذلك، لا لنصرة الدين والحق، بل لمحض التعصب لقومه وهواه، كما يقاتل أهل الجاهلية، فإنهم إنما كانوا يقاتلون لمحض العصبية.

([8]) سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (3948)، (5/ 95)، إسناده صحيح. وأخرجه مسلم (1848)، والنسائي 7/ 123 وهو في  "مسند أحمد" (8061)، و"صحيح ابن حبان" (4580).

([9]) سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (3949)، (5/ 96).

([10]) حلية الأولياء 9/ 11.

([11]) مجموع الفتاوى 11/ 28.

([12]) تفسير فتح القدير 2/ 243.

([13]) نصب الراية 1/ 355.

([14]) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ)، المحقق: صلاح الدين مقبول أحمد، الناشر: الدار السلفية – الكويت، الطبعة: الأولى، 1405، ص21.

([15]) معجم البلدان، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (المتوفى: 626هـ)، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995 م، 1/209.

([16]) فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى - 1414 هـ، 2/277.

([17]) صحيح البخاري (6064)، وصحيح مسلم (2563).

([18]) أخرجه الضياء في «المختارة» (1778) من طريق المخلص به. وهو في «مصنف عبد الرزاق» (20145) بلفظ: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء إلا زانه»

التَّعَصُّب Fanatism

علاء الدين زعتري

 

من التعصب السياسي نشأ التعصب المذهبي، وبه تأيَّد وتأبَّد

قُتِل عمر بن الخطاب باسم الدفاع عن العدالة

وقُتِل عثمان بن عثمان باسم الدفاع عن النزاهة

وقُتِل علي بن أبي طالب باسم الدفاع عن الوحدة

وذُبِح الإمام الحسين بن علي باسم المحافظة على الحكم

وصل التَّعَصُّب ببعضهم أنه إذا وَرَدَ عليه نص من الكتاب أو السنة على خلاف ما يعتقد  يجتهد في رَدِّه نصرة لمذهبه

كثير من الخصومات الفكرية مظهر للعلل النفسية أكثر مما هو خدمة للدين

أصبح التَّعَصُّب للمذاهب شنيعا، تُقَدَّم أقوال أصحاب المذاهب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله

ليس التعصب دليل التدين

الدين أداة فكرية تدعم القيم المجتمعية عن طريق القدوة والتعليم والإرشاد والترغيب والترهيب

التربية الدينية الخاطئة تعمل في تزييف الأهداف وفي جعلها أداة للشر الغريزي

بسبب التَّعَصُّب طعن بعض في نسب بعض

من أراد الموضوعية والإنصاف فليطرح عَن نَفسه التَّعَصُّب والاعتساف

 

التَّعَصُّب أحد أشكال سلوك الإنسان, لكنه سلوك لا يحبذه العقلاء والحكماء من الناس.

التَّعَصُّب داء الأمم والشعوب، وهو مرضها العضال، يمزقها ويشعل فيها نار الفتن، ويحرمها نور الهداية.

وهذا الشكل من السلوك يصدر من الإنسان مهما كانت عقيدته وانتماؤه, وبغض النظر عن المستوى المدني والحضاري للإنسان.

فلا ينبغي أن ينحصر التَّعَصُّب بدين معين, ولا بمستوى حضاري أو علمي أو اقتصادي محدد.

والتَّعَصُّب يعمي العقل, ويحجب الإنسان عن إعمال الفكر, ويسلب منه قدرة التبصر في اختيار الموقف السليم.

والتَّعَصُّب موقف غير عقلاني, ومناقض للعقلانية؛ لأنه موقف لا يستند على قوة البرهان, ومنطق الاستدلال, وليس من غايته البحث عن الحقيقة واكتشافها والتمسك بها, حتى لو كانت عند طرف آخر مغاير, ولأنه موقف يتسم بالتوتر والانفعال النفسي والذهني, ويغلب عليه منطق الغلبة والاحتجاج.

والتَّعَصُّب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يغلق عليه منافذ المعرفة, والوصول إلى علوم الآخرين ومعارفهم, واكتساب الحكمة أنى كان مصدرها ومنبعها.

والتَّعَصُّب يجعل الإنسان على قول واحد يتحيز إليه بشدة, وينافح عنه بغلظة, ولا يقبل الاستماع إلى قول آخر ينازعه, أو يتضايف معه, أو يتفاضل عليه.

والتَّعَصُّب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يحجب عنه اكتشاف عيوبه, والتعرف على نواقصه, والالتفات إلى ثغراته, والتنبه إلى نقاط الضعف فيه, وذلك نتيجة الاعتزاز بالذات, والتفاخر على الآخر, والانشغال بأجواء السجال والاحتجاج, وما يصاحبها من توتر وانفعال.

وفي هذه الحالة يظل يحمل في الإنسان ضعفه وعيوبه, وتبقى معه نواقصه وثغراته إلى أن تتفشى وتتراكم وتصل إلى وضع تنكشف فيه بشكل خطير.

والتَّعَصُّب لا يهدي الإنسان إلى سواء السبيل, لأنه يجلب معه العداوة والبغضاء من الآخرين, ويورث الاحتقان والانقسام بين الناس, ويتسبب في خلق النزاعات والخصومات التي تهدر بدورها الطاقات والإمكانات بدون طائل وبلا ثمرة أو نتيجة, وهذا ما ينبه عليه ويحذر منه العقلاء والحكماء من الناس.

تعريف التَّعَصُّب لغة واصطلاحا:

التَّعَصُّب لغة: من العصبية، وَتَعَصَّبَ، أي: شَدَّ العِصَابة على رأسه([1]).

وأصل التَّعَصُّب في اللغة: أن يدعوَ الرجل إلى نُصرة عَصَبَتِهِ (أي قَوْمه) والتألُّب معهم على من يُناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين.

ولا يَخرج المعنى الاصطلاحيُّ للتعصُّب عن المعنى اللغوي؛ ذلك أن التَّعَصُّب يَعود إلى خَلَل فِكْرِيٍّ يدفع بعض الناس إلى تَوَهُّم أَفْضَلِيَّتِهِ على غَيْره، أو تصور أنه وَحْدَهُ هو الذي يملك الحقيقة والصواب، وأن غيره ينبغي أن يَتبعه.

أما اصطلاحاً:

هو الانحياز التحزبي إلى شيء من الأشياء، فكرةٍ أو مبدأٍ أو معتقدٍ، أو شخصٍ، إما (مع)، وإما (ضد) ([2]).

وفي تعريف آخر للتعصب أن تجعل ما يصدر عن شخص ما من الرأي ويُروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد([3]).

أو: (تبني فكرة خاصة، وإغلاق العقل عندها، وحمل الآخرين على الاعتقاد بها، مع رفض التنازل عنها).

والتَّعَصُّب للشيء، هو مساندته ومؤازرته، والدفاع عنه.

والتَّعَصُّب ضد الشيء، هو مقاومته.

ولكن في الغالب يرتبط مفهوم التَّعَصُّب في أذهان الناس بالجانب السلبي منهن حيث إن التَّعَصُّب في أساسه نظرة سلبية إلى الغير.

إن التقليد والتَّعَصُّب من أعظم أسباب التفرق والانحراف، ومن أهم العوامل التي أدت إلى انتشار العنف بين الناس.

والمتعصب يتجه إلى تحقير الآخرين وإلحاق الضرر بهم، أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياهم الخاصة أو الحصول على كسب منفعة خاصة.

وبالتعريف العلمي لمرض التَّعَصُّب الممقوت (السلبي) هو: (عدم قبول الحق عند ظهور دليله) ([4]).

ويعبر عنه بالتزمت والغلو في الحماس مع ضيق الأفق بعقيدة أو فكرة، مما يؤدي إلى الاستخفاف بالآخرين ومعتقداتهم والصراع معهم ومحاربتهم.

والأسوأ عند يُلبس التَّعَصُّب ثوب الدين، فيبدأ الترامي بالكفر فيما بين المتعصبين دون دليل من سُنَّة وقرآن، ولا لبيان من الله وبرهان.

حيث يُحْبَس الناس في جزئيات الشريعة، معتقدين أنها هي الدين كله، ولعل ذلك بسبب تعليم الشيوخ للناس، عندما يقولون لهم: حكم الله كا في هذه القضية، ورأي الدين كذا في هذا الموضوع، فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله المطلق.

والتَّعَصُّب جُمود في العقل، وانهيارٌ للفِكْر؛ لأنه لا يَسمح بالتعدُّدِيَّة الفِكْرية، وبالتالي فهو انتحار للعقل.

مع أن سُنَّة الفِكْر أن الآراء يَقدح بعضها بعضًا، ومن خلال التعدُّدِيَّة نصل إلى الأفضل، ونقف على السلبيات والعيوب في الآراء المعروضة.

والجمود على فكرة واحدة أو وجه واحد يقتل بقية الآراء والأفكار.

والتَّعَصُّب يلغي التفكير المفتوح (الحر) والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع على الخضوع والاستسلام والتبعية.

 

سمات التَّعَصُّب:

يشتمل التَّعَصُّب على عناصر سلبية وخطيرة؛ من أهمها:

1 - أنه حكم يفتقد للموضوعية، ويتسم بالتعميم أو التسطيح المخل.

2 - أنه يقوم على أساس مجموعة من القوالب النمطية والتصنيفات الجاهزة والانطلاق من خلفية معينة.

3 - ينشأ في ظل سياق ثقافي واجتماعي تغيب فيه لغة الحوار ومبدأ الشورى والحرية.

 

أنواع التعصب:

1 – التعصب الفكري (الاعتقادي).

2- التعصب السلوكي.

 

ورود التَّعَصُّب في نصوص الوحي:

ذم التَّعَصُّب في دين الله:

إنَّ التَّعَصُّب في دِينِ اللهِ على وَجه التشدد وَالتصَلب ممنوع وَ<

عدد القراء : 2515

A PHP Error was encountered

Severity: Notice

Message: fwrite(): write of 34 bytes failed with errno=122 Disk quota exceeded

Filename: drivers/Session_files_driver.php

Line Number: 253

Backtrace:

A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: session_write_close(): Failed to write session data using user defined save handler. (session.save_path: /home/alzatari/public_html/system/cache)

Filename: Unknown

Line Number: 0

Backtrace: