shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم الاقتصاد نموذجاً

 

 

التمييز بين الإعجاز والتفسير:

التفسير أمر يتعلق بفهم النصوص سواء أكانت من عند الله أم من عند البشر.

أما الإعجاز فهو أمر يزيد على التفسير من حيث إن النص بعد فهمه قد يثبت أن فيه إعجازاً لغوياً أو تشريعياً أو علمياً أو اقتصادياً.

وإثبات الإعجاز يحتاج إلى كفاءة فوق الكفاءة التي يستلزمها التفسير.

فالتفسير يستلزم: معرفة اللغة ومعاني الألفاظ والتراكيب ومناسبات النزول.

أما الإعجاز فإنه يقتضي معرفة إضافية خاصة بالوجه المراد من الإعجاز.

فمن يريد إثبات الإعجاز البلاغي أو البياني في القرآن لا بد أن يكون متمكناً من علوم اللغة والبلاغة والنحو والصرف.

ومن يبحث عن الإعجاز التشريعي لا بد أن يعرف التشريعات والقوانين معرفة عميقة ومقارنة.

ومن يسعى إلى الإعجاز الاقتصادي يجب أن يكون على اطلاع عميق ودقيق بعلوم الاقتصاد وتاريخ الفكر الاقتصادي، وأن يكون قادراً على التمييز بين الفروض والنظريات من جهة والحقائق والقوانين الاقتصادية من جهة أخرى.

ومن شأن الإعجاز أن لا يُدرك كله وقت نزول القرآن، ففي كل عصر يمكن أن يتوصل العلماء إلى إدراك شيء جديد من الإعجاز.

وليس المقصود من الإعجاز أن يعجز الناس عن الوقوف عليه، وأن يكون فوق طاقتهم.

ولا يمكن أن يكون هناك إعجاز إلا إذا كان النص منطوياً على معان لا يدركها الناس إلا بجهد علمي كبير.

ومن جهة أخرى فإن القرآن ليس كتاباً في العلوم، بل على العكس من هذا، يجب الوصول إلى العلم أولاً ثم النظر وإدامة النظر في القرآن، وعندئذ فإن القرآن والعلم يتضافران على زيادة المعرفة عند العالِم.

فعلمه يساعده على المزيد من الفهم للقرآن، والقرآن يساعده على مزيد من الفهم للعلم.

مقصد التشريع الإسلامي:

هذا، وإن المقصد العام للتشريع الإسلامي هو جلب المصالح ودرء المفاسد وهذا يقتضي تعظيم المصالح إلى أعظم حد ممكن، وتقليل المفاسد إلى أدنى حد ممكن ضمن الحدود المباحة.

وقد اتفقت كلمة أهل العلم على أن شريعة الإسلام مبناها وأساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها.

واستنادًا إلى ما اتفق عليه أهل العلم وقرروه فإن كل حكم شرعي جاءت به الشريعة لا بد أن يكون إما جالبًا لمصلحة أو دارئًا لمفسدة، وأن وراءه حكمة تشريعية سواء ظهرت لنا أم لم تظهر، وسواء علمها البعض أم جهلها البعض الآخر.

إن القرآن الكريم لا يتعارض مع علم الاقتصاد بل يؤيده في ما يحقق مصالح العباد وخير البلاد.


 

محاور البحث:

الربا والزكاة.

البيع والربا.

الكسب والإنفاق.

 


 

المحور الأول: الربا والزكاة

في العهد المكي كان التركيز في الوحي على إخلاص الدين لله وتنقية العقيدة من الشرك، ومع ذلك نزلت آيات تحث على إعطاء صدقة للمحتاج بدلاً من إقراضه بالربا.

يقول تعالى في تقرير حق المحتاج، قال تعالى: {فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون}.

ثم تأتى الآية التالية تقارن بين الصدقة للمحتاج وبين إعطائه قرضاً بالربا، قال تعالى: {وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 38 ـ 39].

وذلك التلازم بين الحث على إعطاء المحتاج الصدقة بديلاً عن إعطائه قرضاً بالربا يوضح أن المقصود بذلك الربا هو الربا المقدم بديلاً عن الصدقة لمستحقها.

وفى المدينة كان أغلبية الأغنياء من المنافقين الذين كانوا يقرضون الفقراء بالربا فنزلت آيات سورة البقرة تشجب ذلك وتدعو لإحلال الصدقة مكان الإقراض بالربا للمحتاج الجائع.

ومن اللافت للنظر أن حديث القرآن عن تحريم الربا سبقه الحث على إعطاء الصدقة وتوضيح آدابها في ثلاث عشرة آية تبدأ بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}.

وتنتهى بقوله تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة].

ثم تأتى الآيات عن الربا تهاجم المرابين الذين يستغلون الفقراء الجوعى، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة].

فالآية تدعو للكف عن أكل الربا وأن يأخذ المرابي أصل ماله فقط، وتتوعده بالخلود في النار إذا عاد للربا، ثم تحثه الآية التالية على أن يعطى الصدقة بدلاً من الإقراض بالربا، يقول تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

ثم تؤكد الآيات التالية الأمر بالكف عن هذه النوعية من الربا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة].

ولأن المدين في هذه الحالة دائماً ما يكون معسراً لأنه جائع؛ فإن الآية التالية تقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة]، أي تأمر بالصبر على المدين المعسر أو بالتصدق عليه بالتنازل عن الدين أو بعضه. الأمر الذي يدلنا على أن تغليظ التحريم في هذا الربا إلى درجة إعلان الحرب من الله على المرابين ـ لأنه كان استغلالاً للفقراء الجوعى.

ولذلك نزلت الآيات بالحث على الصدقة قبل وبعد الحديث عن تحريم الربا.

ومن الإعجاز الاقتصادي في القرآن قول الله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 279].

إن نظام الفائدة الربوي يعوق التنمية والاستثمار ويسبب التضخم النقدي كما يزيد الفجوة بين الفقير والغني ويؤدي في النهاية إلى التخلف.

في حين أن الزكاة تشجع على الاستثمار وتنميه، وتعالج التضخم وتساهم في علاج مشكلة البطالة.

لقد وصف القرآن الكريم آكل الربا بقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

كما أكد سبحانه أن الله سبحانه يذهب بركة الربا ويصيبه بالهلاك والدمار في قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}

مضار الربا:

على الاقتصاد والمجتمع والفرد الآثار النفسية والخلقية أنزل الله دينه ليقيم العباد على منهج العبودية الحقة، التي تعرج بهم إلى مدارج الكمال، وتسمو بهم إلى المراتب العليا، وبذلك يتخلصون من العبودية، ليقصروا أنفسهم على عبادة رب الخلائق، ويتخلصون بذلك من الفساد الذي يخالط النفوس في تطلعاتها ومنطلقاتها.

والربا واحد من الأعمال التي تعمق في الإنسان الانحراف عن المنهج السوي، ذلك أن المرابي يستعبده المال، ويعمي ناظريه بريقه، فهو يسعى للحصول عليه بكل السبل، وفي سبيل تحقيق المرابي لهدفه يدوس على القيم، ويتجاوز الحدود، ويعتدي على الحرمات.

إن الربا ينبت في النفس الإنسانية الجشع، كما ينبت الحرص والبخل، وهما مرضان ما أصابا نفساً إلا أفسدا صاحبها، ومع الجشع والبخل تجد الجبن والكسل، فالمرابي جبان يكره الإقدام، ولذلك يقول المرابون والذين ينظرون لهم : إن الانتظار هو صنعة المرابي، فهو يعطي ماله لمن يستثمره، ثم يجلس ينتظر إنتاجه لينال حظاً معلوماً بدل انتظاره، وهو كسول متبلد لا يقوم بعمل منتج نافع، بل تراه يريد من الآخرين أن يعملوا، ثم هو يحصل على ثمرة جهودهم.

ولعل الآية القرآنية تشير إلى هذا المعنى قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} فالآية تشير إلى أن المرابي يعطي ماله للآخرين كي ينمو من خلالها.

نؤكد هنا على حرمة الربا ببيان العقوبات القرآنية لآكل الربا:

العقوبة الأولى: التخبط:

قال تعالى: ]الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس[.

لا يدري هل هذا هو الطريق الواضح الحلال فيتبعه أم ذاك الطريق الموصل إلى (القارونية) فجمع المال دون سؤال أو تأمل عن الحلال أو الحرام.

هذا مذهب قارون، فمن شاء أن يكون مثل قارون؛ خسف الله به الأرض فالحرام طريقه، والربا وسيلته، وأكل أموال الناس بالباطل هدفه.

أما مَن شاء أن يأكل رزقه بجهد حلال وكسب طيب فعليه أن يستشير أهل العلم، أن يسأل أهل الفقه ليبينوا له الحلال ليزداد منه، ويوضحوا له الحرام فيجتنبه.

العقوبة الثانية: المحق.

يقول الله تعالى: ]يمحق اللله الربا[، مهما كثرت الأرباح، ومهما تضاعفت الحسابات فالعاقبة والنتيجة هي التي تقول أن العمل  صواب أو غير ذلك، فلا تغتر بكثرة ما لديك من المال إن كان أصله حراماً؛ لأن الله بشَّر آكل الربا بالمحق.

العقوبة الثالثة: الحرب من الله ورسوله:

قال الله تعالى: ]فإن لم تفعلوا ـ أي تتركوا الربا ـ فأذنوا بحرب من الله ورسوله[، ومَن يقوى على مواجهة الله؟! مَن يقوى على مواجهة رسول الله؟!.

العقوبة الرابعة: الكفر:

قال الله تعالى: ]والله لا يحب كل كفار أثيم[، وقال: ]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين[، فالمؤمن لا يفكر بأكل الربا،.

العقوبة الخامسة: الخلود في النار:

قال تعالى: ]ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[.

ففي الربا ظلم اقتصادي وضرر اجتماعي، فكم من بيوت توقفت بسبب هذا الانهيار الاقتصادي، وكم من عمال لم يجدوا فرصة عمل آنية بسبب هذا الإفلاس.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منه: "أكل الربا"([1])، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال :"هم سواء"([2]).

أسباب تحريم الربا وحِكَمهُ:

لا يشك المسلم في أن الله عز وجل لا يأمر بأمر ولا ينهى عن شيء، إلا وله فيه حكمة عظيمة، فإن علمنا بالحكمة، فهذا زيادة علم ولله الحمد، وإذا لم نعلم بتلك الحكمة فليس علينا جناح في ذلك، إنما الذي يطلب منا هو أن ننفذ ما أمر الله به، وننتهي عما نهى الله عنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.

ومن هذه الأسباب ما يأتي:

1ـ الربا ظلم والله حرم الظلم.

2ـ قطع الطريق على أصحاب النفوس المريضة.

3ـ الربا فيه غبن.

4ـ المحافظة على المعيار الذي تقوم به السلع.

5ـ الربا مضاد لمنهج الله تعالى

والآفات الاقتصادية التي يجلبها الربا كثيرة:

  1. تعطيل الطاقة البشرية.

الربا يعطل الطاقات البشرية المنتجة، ويرغب في الكسل وإهمال العمل.

والحياة الإنسانية إنما ترقى وتتقدم إذا بذل الجميع طاقاتهم الفكرية والبدنية في التنمية والإعمار.

والمرابي الذي يجد المجال رحباً لإنماء ماله بالربا يسهل عليه الكسب الذي يؤمن له العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ولا يشتغل بشي من الحرف والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والعمارات.

ثم إن الربا يعطل الطاقات المنتجة، فالعمال قد يقعون في مشكلات اقتصادية صعبة، ولا يجدون إلا المرابي الذي يقرضهم المال بفوائد عالية تعتصر ثمرة أتعابهم، فإذا أحاطت هذه المشكلات بالعمال أثرت في إنتاجهم.

هذا جانب وجانب آخر أن الربا يسبب الركود الاقتصادي والبطالة وهذا يعطل الطاقات العاملة في المجتمعات الإنسانية .

  1. تعطيل المال.

عن الدوران والحركة والعمل، فالمال للمجتمع يعد بمثابة الدم الذي يجري في عروق الإنسان، وبمثابة الماء الذي يسيل إلى البساتين والحقول، وتوقف المال عن الدوران يصيب المجتمعات بأضرار فادحة، مثله كمثل انسداد الشرايين، أو الحواجز التي تقف في مجرى الماء.

قال تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.

  1. التضخم.

وغلاء الأسعار، وهذه نتيجة طبيعية لاحتساب الربا على رأس المال المستخدم في الإنتاج كتكلفة للإنتاج، وبدراسة لبعض الحالات على أساس تمويل مشروعات صناعية معينة بقروض ربوية، وعلى أساس تمويل المشاريع نفسها ذاتياً أو بأدوات تمويل إسلامية، كانت النتائج أن السلعة المنتجة في المشاريع التي يتم تمويلها بقروض ربوية تزيد تكلفتها بنسب تتراوح بين 12 و18%.

  1. الكساد والبطالة.

وعدم التوسع أو الإحجام عن الاستثمار، والواقع أن الربا يحقق للمرابي إغراءاً كافياً ليحجم عن المخاطرة.

فلماذا سيخاطر برأس ماله ويتعب ويتابع العمل، وقد يربح أو يخسر إذا كان باستطاعته أن يقرض ماله بعائد ثابت دون أن يقدم أي جهد أو عمل ودون أن يتحمل أي تبعة.

وبالتالي لن يكون لدى المرابي الدافع للاستثمار، وهذا بدوره سيؤدي إلى إعاقة التكوين الاستثماري وإلى التضخم، هذا بالطبع في حال عدم وجود روادع أخلاقية ودينية للامتناع عن الربا.

وبينما تسعى الأنظمة الاقتصادية إلى تحقيق التعادل الدائم بين الاستثمار والادخار كشرط لضمان مستوى معين من الدخل ولتعبئة الموارد النقدية للفعالية الاقتصادية وإيجاد مناخ استثماري إيجابي نشط بالمحافظة على العدالة والتوازن بين المدخرين والمستثمرين، يأتي الربا ومنظومة الربا لتشكل خللاً واضحاً ولتجهض هذه العلاقة المتوازنة.

 

منافع الزكاة:

إن الإسلام يريد أن يطهر العباد في نفوسهم الخافية المستورة، وفي أعمالهم المنظورة، والقرآن الكريم سماهما بالتزكية والتطهير قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد أقسم الرب تبارك وتعالى في سورة الشمس أقساماً سبعة على أن المفلح من زكا نفسه، والخائب من دساها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}.

وجه الإعجاز الأول في تشريع الزكاة: درجة الإلزام؛ من حيث كونها ركناً من أركان الإسلام، ومن حيث جعل التكافل الاجتماعي ركناً من أركان الدين.

وجه الإعجاز الثاني: الزكاة معجزة من حيث إنها تجعل التكافل الاجتماعي عبادة مالية.

وجه الإعجاز الثالث: طبيعة التشريع في وعاء الزكاة، من حيث استيعاب التطور والتغير في الحياة الاقتصادية؛ تبعاً لإمكانية المكلفين ومراعاة للدخول والثروات وأنواع الأنشطة الاقتصادية.

وجه الإعجاز الرابع: الشمول في استيعاب الأموال والأشخاص لتحقيق العدل مع مراعاة حاجة المستفيد وتأمين ضرورياته.

وجه الإعجاز الخامس: جعل تشريع الزكاة يتضمن تلقائياً قيام مؤسسة للزكاة والعمل على تطورها بما يناسب الزمان.

وجه الإعجاز السادس: الإعجاز في التدفق المستمر الإيرادات الزكاة (يومية الإيرادات)، ليواجه احتياجات التكافل الاجتماعي التي تستجد يومياً.

وجه الإعجاز السابع: توافر العينية والنقدية في الزكاة بحيث تستوعب وترشد كل التصرفات الممكنة من المستفيدين وتؤسس لكل السياسات المحتملة للمساعدات الاجتماعية.

وجه الإعجاز التاسع: الزكاة معجزة من حيث كفاءتها الاقتصادية، ويتجلى ذلك في التأثير الإيجابي في المتغيرات الاقتصادية؛ الادخار والاستثمار وحماية الأصول الرأسمالية المنتجة.

دور الزكاة في علاج مشكلة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية:

تعد زكاة المال عصب النظام الاقتصادي الإسلامي ففيها حلول لمشكلات اقتصادية حياتية، ومن بين هذه المشكلات مشكلة تكدس الأموال في يد فئة من الناس، مما أدى إلى زيادة الفوارق بين الطبقات، ومشكلة عدم الاستقرار الاقتصادي، ومشكلة التضخم، ومشكلة الاكتناز، ومشكلة الفوائد الربوية .

ولقد أدت هذه المشكلات وغيرها إلى الحياة الضنك للطبقة الفقيرة، وانخفاض مستوى الدخول، وعدم توفير الحاجات الأساسية للحياة.

ويتمثل دور الزكاة في علاج مشكلة الفقر في أنه يساهم في تحويل الفقراء القادرين على العمل إلى منتجين، وأنها تزيد من القوة الشرائية للنقود بنقلها إلى الفقراء الذين ينفقونها على الضروريات والحاجيات بدلاً من أنها كانت تنفق على الكماليات، كما يمكن أن توجه أموال الزكاة إلى التنمية الاقتصادية الذاتية داخل البيوت الفقيرة من خلال تمويل المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر، وهذا بدوره يساهم في علاج مشكلة الفقر.

دور الزكاة في محاربة الاكتناز وتنشيط الاقتصاد:

تؤدى زكاة المال إلى محاربة الاكتناز، وفى الوقت نفسه تحفز على استثمار الأموال، وهذا يوفر الأموال السائلة أمام المشروعات الاقتصادية لتنمو وتزدهر.

فلقد فرضت الشريعة الإسلامية الزكاة على المال النامي أو القابل للنماء، وهذا يحرك صاحبه على استثماره خشية أن تأكله الزكاة، ولقد أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة"([3]).

وفى هذا الحديث معاني عديدة من أهمهما الحث على استثمار الأموال حتى لا تنقرض من الزكاة الحولية، ولقد أمرنا الله في كتابه الكريم بعدم الاكتناز والحث على الإنفاق حيث قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: من الآية 34].

دور الزكاة في الحد من التضخم النقدي:

والزكاة تعالج التضخّم في حالة زيادة الطلب عن العرض، حيث تكون النقود المتاحة داخل المجتمع أكبر من قيمة السلع المعروضة؛ وهو ما يدفع الأسعار للزيادة، فترتفع الأجور لتلبية زيادة الأسعار، وهكذا دواليك.

ويكون لتطبيق فريضة الزكاة أثره في كبح جماح التضخّم من خلال:

توفير التدفقات النقدية: فانتظام انسياب حصيلة الزكاة مع بداية كل حَوْل قمَريّ يوفر كميات النقد اللازمة للتداول دون الحاجة إلى لجوء السلطات النقديّة لعمليات الإصدار النقديّ.

وضبط الطلب الكلي: فتطبيق فريضة الزكاة يضمن توفير حدّ الكفاية لجميع أفراد المجتمع، ويتجه المجتمع بصفة عامة للإقبال على السلع الأساسية، ويحول هذا دون ارتفاع مستويات الطلب على الاستهلاك الكماليّ.

كذلك فإن توزيع زكاة الزروع والثمار والماشية في صورتها العينية يسهم إلى درجة كبيرة في الاحتفاظ للنقود بقيمتها الشرائية دون تدهور.

كذلك فإن فرض الزكاة كنفقة واجبة الاستحقاق على رأس المال النامي فعلاً أو تقديراً يدفع بأصحاب رؤوس الأموال إلى الاستمرار في الاستثمار حتى لو كان المعدل المتوقع للربح أقل من نسبة الزكاة 2.5 في المائة، طالما كان هذا المعدل أكبر من الصفر.

ويرجع ذلك إلى أن الاختيار الممكن أمام المستثمرين في هذه الحالة هو بين استثمار أموالهم أو اكتنازها، وليس الاختيار بين استثمارات متعددة.

ونظرًا لأن الاكتناز اختيار غير مطروح، فإن الاستثمار هو الخيار الأمثل "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"([4]).

وتساعد زكاة المال على تنمية الأموال عن طريق الاستثمار وعدم الاكتناز، وفى ظل نظام العمل بنظام الزكاة يُلاحَظ أن هناك أثراً واضحاً في التضخم والذي من أهم أسبابه نقص الإنتاج، والإسراف في الاستهلاك، وارتفاع الأسعار.

فالإسلام يدعو إلى العمل وزيادة الإنتاجية، وإلى الترشيد في الإنفاق وعدم الإسراف والتبذير.

كما يحارب الإسلام الأرباح الفاحشة ويحارب الاحتكار.

بكل هذه الأدوات والأساليب بجانب نظام الزكاة يمكن القضاء على ظاهرة التضخم.

دور الزكاة في علاج مشكلة البطالة وتنمية العنصر البشري:

البطالة مشكلة متعددة الأطراف لها آثار عقدية وخلقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وهى كالسرطان يهدد كيان المجتمع بأسره، وتعانى منها كافة دول العالم سواء أكانت متقدمة أو نامية.

ولقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط لتجنب ظهورها من الأصل.

من أهم هذه الضوابط ما يلي:

حث الإسلام على العمل واعتبره عبادة وقيمة وشرف وثوابه مثل ثواب المجاهد فى سبيل الله.

ولقد أشار القرآن إلى ذلك في مواطن كثيرة، منها:

قول الله تبارك وتعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} [المزمل: 20].

    ويمكن أن تساهم الزكاة لعلاج مشكلة البطالة من خلال توفير مستلزمات العمل من آلات ومعدات وخامات للعمال حتى يتحولوا إلى طاقة إنتاجية وكذلك الإنفاق على البرامج التدريبية للشباب العاطل لتأهله للعمل في ضوء احتياجات سوق العمالة .

دور الزكاة في علاج مشكلة اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء:

من بين مقاصد الإسلام رفع مستوى الفقراء والمساكين وتحويلهم إلى طاقة إنتاجية في المجتمع، فلا يقتصر الأمر على إعطائهم إعانة وقتية بل يمكن أن نشترى لهم وسائل الإنتاج مثل الآلات الحرفية.

دور الزكاة في علاج مشكلة الكوارث والتعثر والإفلاس:

يتعرض الإنسان في حياته لكثير من الحوادث والكوارث والمصائب وهذه تسبب له خوفاً وفزعاً.

ولقد كفل الإسلام لهؤلاء التأمين الحقيقي إذ خصص لهم سهماً في حصيلة الزكاة باعتبارهم من الغارمين بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

المحور الثاني: الربا والبيع

 

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].

عناصر الإنتاج: (الأرض والعمل)، لا غير

وأما رأس المال فأرى أنه صنفان:

رأس مال تراكمي (أصله أرض أو عمل أو كلاهما معاً)، ورأس مال نقدي (لا يستحق أي عائد.

والإشارة إلى عناصر الإنتاج الأساسية، قول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205].

وهنا يظهر الفرق الاقتصادي بين حل الزيادة الواقعة على تبادل البضائع بالمال، وتسمى ربحاً.

وبين حرمة الزيادة الواقعة على تبادل النقود بالنقود، وتسمى الفوائد (الربا).

ولقد ساوَى الكفار بين البيع والربا فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏.‏

أي: إنما الزيادة عند حلول الأجل التي هي ربا النسيئة كمثل أصل الثمن في أول العقد.

وهي محاولة فاشلة؛ لأن هناك فروقًا عظيمة مؤثرة بين البيع والربا منها‏:‏

أولاً‏:‏ أن البيع قد أحلّه الله، والربا قد حرّمه الله، وعلى العباد أن يتلقوا ذلك بالقبول من غير اعتراض‏.‏

ثانيًا‏:‏ أن الاتجار بالبيع والشراء قابل للربح والخسارة، والمهارة الشخصية والجهد الشخصي، أما الاتجار بالربا فهو محدد الربح في كل حالة‏، لا يبذل فيه جهد، ولا تستخدم فيه مهارة، فهو ركود وهبوط وكسل‏.‏

ثالثًا‏:‏ أن البيع فيه معاوضة ونفع للطرفين‏.‏ والربا إنما يحصل فيه النفع لطرف واحد.

قال في تفسير المنار: [وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب يعني قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏، من قبيل إبطال القياس بالنص أي أنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس‏.‏

ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول؛ إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به، ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه؛ والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب؛ كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن هاهنا إلهٌ رحيم؛ يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف، وأن يكون كل منهم عونًا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه‏.‏

ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحل البيع الذي لا يختص الربع فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد‏.‏ فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس؛ وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقًّا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنَّة أحل البيع لأن فيه عوضًا يقابل عوضًا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها‏.‏

والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه؛ ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائمًا انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعًا حقيقيًا لأن من يشتري قمحًا - مثلاً - فإنما يشتريه ليأكله، أو ليبذره، أو ليبيعه، وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعًا حقيقيًا‏.‏

وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل لها من عين ولا عمل‏.‏

وثَمَّ وجه آخر لتحريم الربا من دون البيع، وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانًا لتقديم قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودًا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه، وبذلك يهلك الفقراء]‏.‏

وفي كلامه مقارنة جيدة بين منافع البيع ومضار الربا، والله سبحانه وتعالى أحلَّ البيع وأحل التجارة وحرَّم الربا‏.‏ فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك‏.‏ والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له؛ لم يبع ولم يتجر‏.‏

 

 

 

 


 

المحور الثالث: الكسب والإنفاق

 

إن السمة العامة للحضارات عبر العصور أن المطالب المادية للإنسان هي الغالبة في الدوافع والانفعالات، وقد تمثلت هذه المطالب المادية في حب الذات، والأنانية المفرطة، والاستعلاء الطبقي، والتمايز العنصري، إن على صعيد الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات أو الحكومات أو الدول.

ومن شأن هذا الوضع أن يعتمد أصحاب الحضارات على القوة المادية وحدها في تفاعلهم مع الحضارات الأخرى وتفهمهم لها أو إذابتها.

وقد بيَّن القرآن الكريم هذه المواقف في معرض حديثه عن الأمم السابقة.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)} [الفجر].

لم تخل الأمم اللاحقة من هذه السيطرة الفكرية للأنانية وحب الذات على حياتهم، حتى أصبحت عقدة لدى البعض، نحن نملك أكبر مطار في المنطقة، وأطول برج في العالم، وأضخم بناء في الأرض.

ولا شك أن هذا يشتم منه الغرور بالقوة وتجاهل الحق والعدل والكرامة الإنسانية، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)} [فصلت].

ويحدثنا القرآن عن أولئك الذين قطعوا صخور الجبال واتخذوا فيها بيوتاً، في وقت لم تتقدم فيه وسائل القطع والنحت كما هو عليه الآن، قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي (150) وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (152)} [الشعراء].

وليس الزمن الحاضر ببدع من الأمم السابقة، إذ مدنيات اليوم لا تقوم على أسس أخلاقية فطرية أو دينية، بل تقوم على نفعيات مادية، ومصالح اقتصادية؛ وبالتالي فليس من عيب عندها انتشار الفواحش والمنكرات، حتى تصبح مألوفة بين الناس وعادة مألوفة في النفوس، أو تصل إلى حد التشريعات القانونية؛ كالاتجار بالخمور والمخدرات، واعتبار الزنا من التكسبات، وأن أكل أموال الناس بالباطل من الشجاعات.

وأما ما تميزت به الحضارة الإسلامية: أنها عدلت الموازين، وصححت المفاهيم عبر ربانية المنهج، ونبوية التربية، وإنسانية النـزعة، وعالمية الهدف.

فالله عزَّ وجلَّ هو الخالق المبدع المدبر، وهو الذي سخر كل شيء في الكون لصالح الإنسان؛ فحري بهذا المخلوق أن يستخدم نعم الله ورزقه وفق إرادة المالك الحقيقي وهو الله عزَّ وجلَّ.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66)} [الحج].

وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ (36)} [يس].

فالإنسان مستخلف في الكون لعمارته لا لتخريبه، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. لاستثمار خيراتها والاستفادة من مخزونات لنفع الإنسان بني الإنسان.

وحين لا تحسن أمة الاستخلاف فإن الله يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، ويسلط عليهم مَن يغلبهم، وينـزع الأرض منهم، قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29)} [الدخان].

ولا يستثنى من هذا القانون أحد، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد].

وبالتالي فإن السعي في طلب الرزق، واكتشاف مكنونات الأرض، والانتفاع بما خلق الله في الكون، وهو ما يسمى بالنشاط الاقتصادي؛ عملاً وإنتاجاً واستثماراً وتبادلاً واستهلاكاً؛ كل ذلك في نظر الإسلام وسيلة وليس بغاية؛ وسيلة تقتضيها طبيعة الإنسان، وفطرته التي فطره الله عليها لاستمرار الحياة عبر احتياج الإنسان للغذاء، والكساء، والمأوى، والدواء، والغاية العظمى: تحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ بعمل الخير، والشكر على النعم، ومراعاة حقوق الله وحقوق العباد، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص].

وقد ذمَّ القرآن الكريم مَن يتخذ المال هدفاً لحياته، وغاية لكسبه، وفصَّل عقوبة مَن يكنـز المال ويبخل به عن العطاء والنفع العام، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة].

ومن هنا فإن كل إنسان يتحمل نتيجة عمله وسلوكه ونشاطه، وهو المسؤول عنه:

مسؤولية دنيوية عندما يتعلق الأمر بالغير.

ومسؤولية أخروية أمام الله عندما يكون الأمر متعلق بذات الإنسان أو بغيره ولم تقع عليه محاسبة الدنيا.

وهذه المسؤولية الدنيوية تحددها أحكام الشريعة وتطبق عليه في الدنيا، وفائدة معرفة المسؤولية الأخروية ليستشعر الإنسان رقابة الله عليه فلا يقع في الحرام وظلم الآخرين، وليكون هدفه كفاية نفسه، وإسعاد مَن حوله، وإنشاء الحضارة، ونفع الخلق؛ ليستحق محبة الله عزَّ وجلَّ.

قراءة  لحل المشكلة الاقتصادية في الفكر الإسلامي:

إن أهم قضية في الحل الإسلامي أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد أراد السمو بالإنسان، من طغيان الأنانية بالركون إلى الماديات، وذلك عبر هدف الإسلام بتحقيق التوازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد؛ لضمان حياة سليمة متحضرة.

1 ـ مبدأ العلم بالأحكام:

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لاَ يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلاَ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ([5]).

2 ـ مبدأ العمل:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"([6]).

3 ـ مبدأ المشروعية:

عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ"([7])، العقد شريعة المتعاقدين ما لم يخالف النظام العام.

4 ـ مبدأ الملكية قبل التصرف:

لتجنب الاقتصاد الوهمي، فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنْ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَبْتَاعُ لَهُ مِنْ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ قَالَ: "لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ"([8]).

5 ـ مبدأ رضائية العقد:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29].

وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ"([9]).

وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].

6 ـ مبدأ الأمر بأداء الحقوق:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ"([10]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ"([11]).

7 ـ مبدأ توقي الحرام (الحذر من الحرام):

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ"([12]).

وعَنْ رِفَاعَةَ بن رافع أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ" فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً إِلاَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ"([13]).

تحريم الغرر والجهالة:

"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر"([14]).

كل جهالة قد تؤدي إلى نـزاع تفسد العقد.

تحريم مال اليتيم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].

تحريم التطفيف وبخس الناس أشياءهم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو<

عدد القراء : 2678