الحب في القرآن
هل يمكن تطبيق مفاهيم الحب وقيمه التي أوردها القرآن الكريم في حياتنا اليومية؟
وهل نستطيع ان نحل هذه المبادئ محل الزيف والخداع والغش والكراهية التي افسدت معيشتنا على الأرض وحولتها الى جحيم لا يطاق؟!!
حب النفس في غياب الايمان هو تضييع لها، لأن من ينسى الله ينسيه الله نفسه، فأي ضياع أشد من ذلك حتى ولو كسب الإنسان الدنيا كلها؟
لقد اعتبر الاسلام الحبّ قيمة عُليا في رسالته، وهدفاً سامياً من أهدافه، يسعى بشتّى الوسائل لتحقيقه، وتكوينه في النفس البشرية، وإشاعته في المجتمع، وبناء الحياة على أساس الحبّ والمودّة.
هل الإسلام إلاّ الحبّ؟ ألا ترى قول الله عزّ وجلّ: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران 31].
أوَلا ترى قول الله عزّ وجلّ، لرسوله صلى الله عليه وسلم: {حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم} [الحجرات 7] وقال: {يحبّون مَن هاجر إليهم} [الحشر 9].
ونعرف قيمة الحبّ في الاسلام من تعريف الاسلام للحبّ.. نعرفه عندما يعرف الاسلام نفسه بأنّه الحبّ، وبأنّ الحبّ هو الاسلام.. وأنّ قيمة كبرى يسعى لتحقيقها في الحياة هي الحبّ.. حبّ الله، وحب الحق وحبّ الخير، وحبّ الإنسان.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أوَلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السّلام بينكم" [متفق عليه].
لنقف طويلاً عند هذا التعريف الذي حمله إلينا الحديث الشريف، ولنتأمّل في مفاهيمه الحضارية وقيمته الكبرى في حياة الانسان، لنعرف كم هي الحاجة إلى تمثّل هذه القيمة الحضارية، وتحويلها إلى سلوك وممارسات في حياة الانسان..
هذا التعريف الفريد في عالَم الانسان للدين والحبّ، يعرفنا بمحتوى الدين ومحتوى الحبّ.. فالدين حبّ لله وللناس وللخير، والحبّ مقدّس عندما ينطلق من حبّ الله، عندما ينطلق من حب الخير المطلق والجمال المطلق.
جسد وروح
ويتجسّد الحبّ في مجالين اثنين هما: المجال الحسي، وهو الحبّ المألوف في عالَم الانسان، وثانيهما المجال الروحي: وهو الحبّ الرّوحي المتمثل في حبّ الانسان لله وللقيم والمعاني المجرّدة، كقيم الحق والعدل.
والإنسان كما هو عقل وإرادة، هو مشاعر وعواطف ووجدان، وهو نفس وروح، كما هو جسد وأجهزة ماديّة، تعمل وفق قوانين بيولوجية وفسيولوجية.
والحبّ حالة نفسيّة وعاطفية تنبع من أعماق الانسان لتمنحه السعادة والهناء، وربطه بالمحبوب ارتباط الانسجام والرضى والتوافق، حتى يكاد المحبّان أن يتّحدا، وإذا ترسّخ الحبّ، وتحوّل إلى شعور باحتواء المحبوب. فسيشعر المحبّ، فيما وراء الوعي أن لا حواجز بينهما. فهما حقيقة واحدة، وذاتان مندمجتان.
والحبّ هو رابطة روحيّة، وإحساس نفسي، وشعور وجداني يعيش في أعماق النفس، ويتّخذ أشكالاً شتّى من التعبير، كالثناء والتحيّة والمصافحة والنصيحة ورفع الأذى، والهديّة والمصاحبة في السّير والزيارة، وتبادل كلمات الود، والعيش في مكان مشترك.
كم هي البشريّة بحاجة إلى حبّ الاسلام؟ الحبّ المجرّد من الربح والحساب المادي، الحبّ الرّوحي والعاطفي الصّادق..
لم تكن مفاهيم الحبّ، قيماً فلسفيّة مُجرّدة، بل جسّدها الاسلام منهجاً عمليّاً يستوعب قلب الانسان وروحه وعقله وحسّه ونشاطه وغرائزه. فالحبّ في الاسلام هو: حبّ الله.. حبّ الوالدين.. حبّ الزّوجة.. حبّ الأبناء.. حبّ الحاكم العادل.. حبّ الوطن والأرض.. حبّ الأرحام.. حبّ النّاس.. حبّ الجمال.. حبّ الطّبيعة.. حبّ العلم.. حبّ الخير..
ومن حبّ الله يبدأ الحبّ في الاسلام وقد وضّح القرآن هذه الحقيقة الجوهريّة في عمق الاسلام، بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبونَ اللهَ فَاتبِعُوني يُحْبِبْكُمُ الله}. [آل عمران 31].
وكم نحن بحاجة إلى الحبّ ليسري في حضارة الانسان الماديّة المليئة، بالحقد والانتقام والتي تسجلها حوادث الحروب من القتل الجماعي، ودفن الأحياء في مقابر جماعية، واغتصاب النساء، وقتل الأطفال، وحرق المدن والمزارع، ونسف البيوت للتشفي والانتقام..
معنى الحب
وحبّ الله في الاسلام يعني حبّ المؤمنين بالله، وحبّ الخير للبشريّة، وحبّ الخير والكمال فيما يفعل الانسان وفيما يقول ويعايش.. وحبّ الله هو حبّه بأسمائه الحسنى، الرّحمن الرّحيم، العفوّ الغفور، الرّؤوف الودود، الحليم الشكور، العادل اللّطيف، مجيب دعوة المضطرّ، المنعم المحسن...
وفلسفة الحبّ الإلهي، هي فلسفة العشق الذي ملأ عالَم الموجودات فشدّها إلى المبدأ، وشوّقها في حركة المادّة والرّوح للبحث والسّعي نحو الكمال.. فصنع روحاً بشريّة توّاقة إلى الحبّ والبحث عن الجمال في عالَم المحسوس، وعوالِم القيم والاعتبار..
فالمؤمن المحبّ يرى وجود الله والقرآن متجلياً بأسمائه الحسنى في الأشياء والعوالِم من حوله.. والقرآن يطلق على الله سبحانه اسم الإله.. وكلمة إله في لغة العرب مأخوذة من الوَلَه، وهو الحبّ والتحيّر في صفات المحبوب.. والعلاقة بين الله والخلق مبنيّة على الحبّ والودّ ; لذا وصف نفسه سبحانه بالرّحيم الودود، حتّى ورد في بعض الروايات أنّ الله لا يكره خلقه، وإن كفروا به وعادوه، إنّما يكره أفعالهم السيئة التي يفعلونها.
وكم عبّر القرآن عن حبّ الله للإنسان، وعرّفه للخلق بأنّه الحبيب المحبّ لفاعلي الخير والمعروف، فقال: {... إِن اللهَ يُحِب المحْسِنِين}. [البقرة 195] {إِن اللهَ يُحِب التّوّابِينَ وَيُحِب المتَطَهرِين}. [البقرة 222] {... فَإِن اللهَ يُحِب المتقِين}. [آل عمران 76]، {... وَاللهُ يُحِب الصّابِرِين}. [آل عمران 146] {... إِن اللهَ يُحِب المقْسِطِين}. [المائدة 42].
تطهير النفس
كم وقف القرآن مع الّذين لا يعرفون قيمة الحبّ الإلهي، يؤنبهم ويهددهم، بأنّهم إن أعرضوا عن الله، فسوف يأتي بآخرين يحبّهم ويحبّونه. فهو سبحانه يريد أن يبني الحياة على أساس الحبّ بينه وبين خلقه، وفيما بين الخلق أنفسهم؛ لذلك نجده يستنكر على الانسان أن يحبّ غير الله كحبّه لله.
جاء هذا البيان في قوله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبونَهُمْ كَحُب الله}. [البقرة/165].
وهكذا يتجلّى مبدأ الحبّ الإلهي في الخطاب القرآني، وقد ملأ الحياة بعد أن ملأ القلوب والنفوس، وحبّ الله حصانة للنفس البشرية من النزوع إلى الجريمة والعدوان، وتطهير للنفس والوجدان من الحقد والكراهيّة للحقّ والخير والجمال.
ويعمل الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم جاهداً على أن يشيد المجتمع على أساس الحبّ والولاء في الله، فيوضح للناس هذه الحقيقة بقوله:
"ودّ المؤْمِنِ للمؤْمنِ في اللهِ مِن أعظمِ شُعب الإيمان، ومَنْ أحب في اللهِ، وأبْغَضَ في اللهِ، وأعْطى في اللهِ، ومَنَعَ في الله، فهوَ مِنَ الأصفياء" [رواه ابن حبان].
ويأتي بيان نبويّ آخر ليعمق الحبّ في النفوس، ويقيم لغة التخاطب على أساس الحبّ، فيعلّم المسلم كيف يفصح عن حبه لأخيه، ليشيع في نفسه الحبّ، ويشعره أنّه في مجتمع يكتنفه الحبّ، ولا مكان فيه للحقد والكراهية. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحبّ أحدكم أخاه، فليُعلِمه إيّاه". [سنن ابن ماجه].
وقد علّم القرآن الانسان المسلم تطهير النّفس من الحقد والغلّ والكراهية لتصفو للحبّ وحده، ففي الدّعاء القرآنيّ: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوْبِنا غِلا لِلذِينَ آمَنُوا رَبنا إِنكَ رَؤُوفٌ رَحِيم}. [الحشر 10].
تجسيد عملي
والرّسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ أفكاراً نظريّة، ولا فلسفة أخلاقيّة مجرّدة، بل هو حامل دعوة لبناء الانسان بناءً عمليّاً. لذا نجده جسّد قيم الحبّ والولاء تجسيداً عمليّاً حين طبّق مبدأ المؤاخاة بين المسلمين، فآخى بين كل اثنين منهم.
فأصبح المجتمع بعد المؤاخاة صورة للحبّ والأخوّة.. وكم تجسّد هذا الحبّ إيثاراً، فقسم الأنصار أموالهم، قسماً لأنفسهم وقسماً للمهاجرين، وحين تجسّد الإيثار صورة تفيض بالحبّ والمؤاخاة، أثنى الله سبحانه على صورة الحبّ الاجتماعية تلك بقوله: {وَالذينَ تَبَوّأوا الدارَ وَالإِيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُح نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُون}. [الحشر 9].
ثمّ يتواصل تيّار الحبّ والمؤاخاة شعوراً وجدانيّاً، وسلوكاً عمليّاً لدى الأجيال التالية، فهي ورثت مِن أسلافها مشاعر الحبّ والاحترام، ولم ترث مشاعر الكراهية والبغض التاريخي.
القرآن يصف هذه الظاهرة الاجتماعية الفريدة في عالم الانسان، وذلك الترابط الوجداني المتواصل الذي تنيره العقيدة، وتمدّه العاطفة بالحرارة والحيويّة. يصفه بقوله:
{وَالذينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبنا اغْفِرْ لَنا وَلإخْوَانِنا الّذينَ سَبَقُونا بِالإِيمانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاً لِلذينَ آمَنُوا رَبنا إِنكَ رَؤُوفٌ رَحِيم}. [الحشر 10].
وظاهرة الدعاء الواردة في الآية هذه، وفي غيرها من الآيات، هي أصدق تعبير لدى مَن يعي ما يقول، هي أصدق تعبير عن الحبّ بين المؤمنين، فلا يدعو الدّاعي، إلاّ وهو مُحبّ لمن يدعو له بالخير والصّلاح.
وعلى أساس الحبّ يؤسس الاسلام الأسرة، فعلى أساس الحبّ تُبنى العلاقة بين الزّوجين، وبين الآباء والأبناء. وأصدق ما يجسد هذه الرّوح هو قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدةً وَرَحْمَة}. [الرّوم 21].
ويتحدّث علي بن ابي طالب رضي الله عنه عن حبّ المرأة في الاسلام فيصفه بقوله: "ما أظنّ رجلاً يزداد في الإيمان خيراً، إلاّ ازداد حُبّاً لزوجته"... ثم يدعو الرّجل إلى أن يُشعِر زوجته بالحبّ ليثبت في قلبها... إنّه يصور عطاء تلك الكلمة الخالدة بقوله: [قول الرّجل للمرأة: إني أحبّك، لا يذهب من قلبها أبداً].
عدد القراء : 990