دخول النية في أعمال المكلف
قُلْت: وَهَذَا ذِكْر مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ الْأَبْوَاب إجْمَالًا:
مِنْ ذَلِكَ: رُبْع الْعِبَادَات بِكَمَالِهِ، كَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْل فَرْضًا وَنَفْلًا، وَمَسْح الْخُفّ فِي مَسْأَلَةِ الْجُرْمُوقِ إذَا مَسَحَ الْأَعْلَى، وَهُوَ ضَعِيف، فَيَنْزِل الْبَلَل إلَى الْأَسْفَل، وَالتَّيَمُّم، وَإِزَالَة النَّجَاسَة عَلَى رَأْيٍ، وَغُسْل الْمَيِّت عَلَى رَأْي، وَالْأَوَانِي فِي مَسْأَلَة الضَّبَّة بِقَصْدِ الزِّينَة أَوْ غَيْرهَا، وَالصَّلَاة بِأَنْوَاعِهَا: فَرْض عَيْن وَكِفَايَة، وَرَاتِبَة وَسُنَّة، وَنَفْلًا مُطْلَقًا، وَالْقَصْر، وَالْجَمْع، وَالْإِمَامَة وَالِاقْتِدَاء، وَسُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر، وَخُطْبَة الْجُمُعَةِ عَلَى أَحَد الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَذَان، عَلَى رَأْي، وَأَدَاء الزَّكَاة، وَاسْتِعْمَال الْحُلِيِّ أَوْ كَنْزه، وَالتِّجَارَة، وَالْقِنْيَة، وَالْخِلْطَة عَلَى رَأْي، وَبَيْع الْمَال الزَّكَوِيِّ، وَصَدَقَة التَّطَوُّع، وَالصَّوْم فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالِاعْتِكَاف، وَالْحَجّ وَالْعُمْرَة كَذَلِكَ، وَالطَّوَاف فَرْضًا وَاجِبًا وَسُنَّةً، وَالتَّحَلُّل لِلْمُحْصَرِ، وَالتَّمَتُّعِ عَلَى رَأْي، وَمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ، وَالسَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى رَأْي، وَالْفِدَاء، وَالْهَدَايَا، وَالضَّحَايَا فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالنُّذُور، وَالْكَفَّارَات، وَالْجِهَاد، وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير، وَالْكِتَابَة، وَالْوَصِيَّة، وَالنِّكَاح، وَالْوَقْف، وَسَائِر الْقُرَب، بِمَعْنَى تَوَقُّف حُصُول الثَّوَاب عَلَى قَصْد التَّقَرُّب بِهَا إلَى اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ نَشْر الْعِلْم تَعْلِيمًا وَإِفْتَاءً وَتَصْنِيفًا، وَالْحُكْم بَيْن النَّاس، وَإِقَامَة الْحُدُود، وَكُلّ مَا يَتَعَاطَاهُ الْحُكَّام وَالْوُلَاة، وَتَحَمُّل الشَّهَادَات وَأَدَاؤُهَا.
بَلْ يَسْرِي ذَلِكَ إلَى سَائِر الْمُبَاحَات إذَا قُصِدَ بِهَا التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَة أَوْ التَّوَصُّل إلَيْهَا، كَالْأَكْلِ، وَالنَّوْم، وَاكْتِسَاب الْمَال وَغَيْر ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ النِّكَاح وَالْوَطْء إذَا قُصِدَ بِهِ إقَامَة السُّنَّةِ أَوْ الْإِعْفَاف أَوْ تَحْصِيل الْوَلَد الصَّالِح، وَتَكْثِير الْأُمَّة، وَيَنْدَرِج فِي ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْمَسَائِل.
وَمِمَّا تَدْخُل فِيهِ مِنْ الْعُقُود وَنَحْوهَا: كِنَايَات الْبَيْع وَالْهِبَة، وَالْوَقْف، وَالْقَرْض، وَالضَّمَان، وَالْإِبْرَاء، وَالْحَوَالَة، وَالْإِقَالَة، وَالْوَكَالَة، وَتَفْوِيض الْقَضَاء، وَالْإِقْرَار، وَالْإِجَارَة، وَالْوَصِيَّة، وَالْعِتْق، وَالتَّدْبِير، وَالْكِتَابَة، وَالطَّلَاق، وَالْخُلْع، وَالرَّجْعَة، وَالْإِيلَاء، وَالظِّهَار، وَالْأَيْمَان، وَالْقَذْف، وَالْأَمَان.
وَيَدْخُل أَيْضًا فِيهَا فِي غَيْر الْكِنَايَات فِي مَسَائِل شَتَّى: كَقَصْدِ لَفْظ الصَّرِيح لِمَعْنَاهُ، وَنِيَّة الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي الْمَبِيع وَالثَّمَن، وَعِوَض الْخُلْع، وَالْمَنْكُوحَة، وَيَدْخُل فِي بَيْع الْمَال الرِّبَوِيّ وَنَحْوه وَفِي النِّكَاحِ إذَا نَوَى مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ بَطَلَ.
وَفِي الْقِصَاص فِي مَسَائِل كَثِيرَة مِنْهَا تَمْيِيز الْعَمْد وَشِبْهِهِ مِنْ الْخَطَأ، وَمِنْهَا إذَا قَتَلَ الْوَكِيل فِي الْقِصَاص، إنْ قَصَدَ قَتْله عَنْ الْمُوَكِّل، أَوْ قَتَلَهُ بِشَهْوَةِ نَفْسه. وَفِي الرِّدَّة، وَفِي السَّرِقَة فِيمَا إذَا أَخَذَ آلَات الْمَلَاهِي بِقَصْدِ كَسْرهَا وَإِشْهَارهَا أَوْ بِقَصْدِ سَرِقَتهَا، وَفِيمَا إذَا أَخَذَ الدَّائِن مَال الْمَدِينِ بِقَصْدِ الِاسْتِيفَاء، أَوْ السَّرِقَة، فَلَا يُقْطَع فِي الْأَوَّل، وَيُقْطَع فِي الثَّانِي وَفِي أَدَاء الدَّيْن، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ لِرَجُلٍ، بِأَحَدِهِمَا رَهْن، فَأَدَّى أَحَدهمَا وَنَوَى بِهِ دَيْن الرَّهْن، انْصَرَفَ إلَيْهِ وَالْقَوْل قَوْله فِي نِيَّته.
وَفِي اللُّقَطَة بِقَصْدِ الْحِفْظ أَوْ التَّمْلِيك، وَفِيمَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَر مِنْ أَرْبَع، فَقَالَ: فَسَخْت [الفسخ: طلاق أم فراق] نِكَاح هَذِهِ،
فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاق كَانَ تَعْيِينًا لِاخْتِيَارِ النِّكَاح [الطلاق يكون بعد نكاح صحيح، والصحيح لا يكون إلا لأربعة]، وَإِنْ نَوَى الْفِرَاق أَوْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى اخْتِيَار الْفِرَاق، [نهاية المطلب في دراية المذهب (12/ 342)
فإذا أسلم وأسلمن وهن زائدات على الأربع، فالإسلام يدفع نكاح الزائدات على الإبهام، وتبقى في الزوجية أربعٌ مبهمات، والتعيين إلى الزوج.
وفي بحر المذهب للروياني (9/ 275)
يفسخ نكاح من زاد على الأربع ... لأن الفسخ يقع على من لا يجوز له إمساكها ويجوز له إمساك الأربع.
وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي (9/ 333 وما بعدها)
[مسألة أسلم على أكثر من أربع]
إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع زوجات فأسلمن معه في العدة، أو كن كتابيات.. لزمه أن يختار أربعا منهن ويفارق ما زاد، سواء تزوجهن بعقد واحدا أو بعقود، وسواء اختار من نكحها أولا أو آخرا. وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يصح التخيير بحال، بل إن كان تزوجهن بعقد واحد.. بطل نكاح الجميع، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعقد مستأنف. وإن تزوجهن بعقود.. لزمه نكاح الأربع الأوائل، وبطل نكاح من بعدهن) .
دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن» ولم يفرق وروي «عن نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته، فقال: " فارق إحداهن، وأمسك أربعا " فعمدت إلى أقدمهن عندي عهدا ففارقتها» وأراد: أقدمهن صحبة.
وفي الحاوي الكبير (9/ 280)
قال الشافعي: " ولو أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ فَقَالَ قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ مَا أَرَادَ، وَإِنْ أَرَادَ حِلَّهُ بِلَا طلاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَأُحْلِفَ". ]
وَفِيمَا لَوْ وَطِئَ أَمَة بِشُبْهَةٍ، وَهُوَ يَظُنّهَا زَوْجَته الْحُرَّة، فَإِنَّ الْوَلَد يَنْعَقِد حُرَّا.
وَفِيمَا لَوْ تَعَاطَى فِعْل شَيْء مُبَاح لَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِد عَدَم حِلّه، كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَة يَعْتَقِد أَنَّهَا أَجْنَبِيَّة، وَأَنَّهُ زَانٍ بِهَا، فَإِذَا هِيَ حَلِيلَته،
أَوْ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدهُ مَعْصُومَاً، فَبَانَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دَمَهُ،
أَوْ أَتْلَفَ مَالًا يظنه لِغَيْرِهِ، فَبَانَ مِلْكَهُ.
قَالَ الشَّيْخ عِزُّ الدِّينِ: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْم الْفَاسِق لِجُرْأَتِهِ عَلَى اللَّه؛ لِأَنَّ الْعَدَالَة إنَّمَا شُرِطَتْ لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِصِدْقِهِ، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وَقَدْ انْخَرَمَتْ الثِّقَةُ بِذَلِكَ، لِجُرْأَتِهِ بِارْتِكَابِ مَا يَعْتَقِدُهُ كَبِيرَة.
قَالَ: وَأَمَّا مَفَاسِد الْآخِرَة فَلَا يُعَذَّبُ تَعْذِيب زَانٍ وَلَا قَاتِل، وَلَا آكِلٍ مَالًا حَرَامًا؛ لِأَنَّ عَذَاب الْآخِرَة مُرَتَّب عَلَى تَرَتُّب الْمَفَاسِد فِي الْغَالِب، كَمَا أَنَّ ثَوَابهَا مُرَتَّب عَلَى تَرَتُّب الْمَصَالِح فِي الْغَالِب.
قَالَ: وَالظَّاهِر أَنَّهُ لَا يُعَذَّب تَعْذِيبَ مَنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً؛ لِأَجْلِ جُرْأَته وَانْتِهَاك الْحُرْمَة؛ بَلْ عَذَابَا مُتَوَسِّطًا بَيْن الصَّغِيرَة وَالْكَبِيرَة.
وَعَكْس هَذَا: مَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّة وَهُوَ يَظُنّهَا حَلِيلَةً لَهُ لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء مِنْ الْعُقُوبَات الْمُؤَاخَذَات الْمُتَرَتِّبَة عَلَى الزَّانِي اعْتِبَارًا بِنِيَّتِهِ وَمَقْصِده.
وَتَدْخُل النِّيَّة أَيْضًا: فِي عَصِير الْعِنَب بِقَصْدِ الْخَلِّيَّةِ وَالْخَمْرِيَّة.
وَفِي الْهَجْر فَوْق ثَلَاثَة أَيَّام فَإِنَّهُ حَرَام، إنْ قَصَدَ الْهَجْر وَإِلَّا فَلَا.
وَنَظِيره أَيْضًا: تَرْك الطِّيب وَالزِّينَة فَوْق ثَلَاثَة أَيَّام لِمَوْتِ غَيْر الزَّوْج، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بِقَصْدِ الْإِحْدَاد حُرِّمَ وَإِلَّا فَلَا.
وَتَدْخُل أَيْضًا فِي نِيَّة قَطْع السَّفَر، وَقَطْع الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة، وَقِرَاءَة الْقُرْآن جُنُبَا بِقَصْدِهِ، أَوْ بِقَصْدِ الذِّكْر، وَفِي الصَّلَاة بِقَصْدِ الْإِفْهَام، وَفِي غَيْر ذَلِكَ.
عدد القراء : 554