الإسراء والمعراج عبودية لله
المعراج إنسان في الملأ الأعلى
هل كان الإسراء والمعراج حقيقة أو رؤيا حق؟ الجواب ملأ كتب التراث، ولكنه يحمل دلالة واحدة، وهي أنَّ الرأيين مشروعان، وهو حصيلة خلاف بين الصحابة أنفسهم، حيث اختار كل من عائشة ومعاوية والحسن أنها رؤيا حقّ، فيما ذهب معظم الصحابة إلى أنها حقيقة جسدية وروحية. وعلى اختلاف رأيهم في هذا، ظلوا يدورون في فلك الحوار المشروع، ولم يتمّ تقسيمهم إلى مؤمنين وكافرين، كما نصنع اليوم في جدلنا العقيم الغاضب.
ليس في تاريخ الإسلام يومٌ كان فيه الرسول الكريم أقرب إلى ربه من يوم المعراج والإسراء، وهو يسري من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ولكن اللافت هنا أنَّ الآية تصفه بأنه عبد لله؛ {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، وقد كان السياق أن يقال أسرى بنبيه أو برسوله أو بحبيبه أو بمصطفاه، ولكن الآية قالت (بعبده)، محض عبد لله.
وفي سورة النجم تشيرُ الآيات إلى أنَّ النبي الكريم رقى في السموات، وأنه رأى من آيات ربه الكبرى، وأنه دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وهو قرب لا يُبتغى قربٌ أرقى منه أو أدنى إليه، فهو هنا عن يمين الرحمن، على بساط الحق عند ساق العرش، حيث لا يتصور أن يكون هناك مقام أعلى ولا أرقى. وهنا يجيء الخطاب القرآني بصيغة «فأوحى إلى عبده ما أوحى»!!.
كان الأليق بالسياق أن يقال فأوحى إلى ضيفه ما أوحى، أو إلى رسوله أو نبيه أو مختاره أو وليه أو صفيه أو حبيبه، ولكن القرآن هنا يختار لفظ عبده، فما هو سرّ العبودية بالذات في هذين المقامين؟
إنَّ القرآن الكريم أثنى على النبي الكريم بعاطر الثناء، فسماه بشيراً ونذيراً وشاهداً وسراجاً منيراً. ولكنه هنا يبخل بهذه الألقاب جميعاً، ويختار له لقب العبد، رغم أنه في تلك اللحظة الضيف الأعلى عند الله!!!.
في قصة ولادة المسيح، كلُّ شيء يبدو مدهشاً في هذه الحكاية القرآنية الفريدة؛ مجيء إنسان دون أب!!، وأن تحمل امرأة دون زوج!! وبعد قليل ستأتي معجزة ليست أقل منهما دهشاً فالفتى الذي يلتف في المهد سيتكلم!! وسينطق بلسان عربي مبين، وهو حدث سيغيّر وجه العالم شئنا أم أبينا، وسيبدأ العالم كله التوقيت والتاريخ بدءاً من هذه الكلمات التي سيتكلم بها الغلام، وسيصبح تاريخ البشرية كله على قسمين: قبل الميلاد وبعد الميلاد!!.
كلّ شيء هنا مثيرٌ للدهشة والهول، ومن حقّ هذا الفتى الناطق في المهد أن ينادى بأشرف الألقاب والأسماء كرسول وقائد ونبي وإمام ومخلص وموعود ومنتظر وشافع ومشفع، ولكن القرآن يذكره في هذه اللحظة التاريخية بأنه عبد لله، وتأتي الآية في سياق دقيق، وقبل أن يتحدث عن براءة أمه من الفحشاء التي يتهمونها بها تحدَّث عن وحدانية ربه: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً}!!
لماذا كان الإصرار كله على وصف النبيين الكريمين برتبة العبادة لله؟
الحديثُ عن النبي الإنسان في سقف الملأ الأعلى غاية قرآنية نبيلة تقطع الطريق على الآلهة المزيفين من صنائع الاستبداد، الذين يتحدثون عن صلة بالسماء، ويفرضون لأنفسهم الامتيازات على الأرض!.
لقد كانوا أنبياءَ كبار، محفوفين بعناية الله، ضيوف منازله ومعارجه، أشواقهم في السماء وكفاحهم في الأرض، ولكنهم لم يكونوا يدعون لأنفسهم منازل الآلهة، لقد ظلوا بشراً بين الناس، يفرحون ويحزنون، يصيبون ويخطئون، ينجحون ويخفقون، في حياتهم نصر وانكسار، بدر وأحد، هجرة وفتح، يعلمون أشياء ولا يعلمون أشياء، ولكنهم يرفضون بكل عزيمة أن يصنعوا لأنفسهم عالماً من العاج فوق رقاب العباد، يمقتون عبادة الفرد، ويقاومون الاستبداد، ويقلبون الموائد في وجوه الفريسيين والكتبة والمستبدين.
إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني، وأنتم أعلم بأمور دنياكم.
عدد القراء : 707