قاعدة النظر في المآلات وأثرها في الحياة
الحمد لله مانح الخير والنعم، ناشر النعم، ودافع النقم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث إلى كل الأمم، سيد العرب والعجم، وعلى آل بيته أولي الخير والكرم، وصحابته من وصفوا بخير الأمم، الذين فقهوا الحياة والدين، وعرفوا أسرار الشرع المتين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنَّ من أهم ما يتعيّن على الفقيه المصلح والداعية الناجح إدراكه وفهمه؛ هو العمل وفق قواعد الدين الكلية، ومقاصد التشريع العامة، التي يتوقف فهم الأحكام عليها، ويُحتاج في تنزيلها على الوقائع إليها.
إذ يتعين على المجتهد والفقيه والمفتي: النظر إلى مآلات الأفعال، والتأمل في نتائج التصرفات قبل المسارعة إلى الحكم وبيان المسألة، وقبل المبادرة للوصول لنتيجة الاجتهاد، وعمله هذا فرع عن قاعدة سد الذرائع.
ويُقصَد بمآل الفعل: أثره العملي ونتيجته الفعلية في أرض الواقع.
ويُقصَد بمراعاة مآلات الأفعال: معرفةُ الغاية التي استهدفها الشارع من سن الحكم، والكشفُ عن وجوه هذه الغاية في الحادثة موضوع البحث.
وكم ممن تصدَّر للفتيا والتعليم أغفل هذا الباب، وأصدر أحكاماً مجرّدة، فوقع ـ وأوقع ـ بخلاف الحق في مسائل عديدة، وكان من أضرِّ الخلق على أديان الناس، وجنايته أعظم من جناية الطبيب الغافل على أبدانهم.
فليس من الفقه والبصيرة في الدين إجابة المستفتي بحكم شرعي ـ وإن كان حقاً ـ دون تقدير لمآل تلك الفتوى وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين إغفال ما يتعلق بمآلات الأفعال من قواعد؛ كقاعدة سد الذرائع، وإن كان الحكم متعلقاً ـ في أصله ـ بمباح بيّن الإباحة.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين الجمود على ما كتبه الفقهاء قديماً في بعض المسائل؛ مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف صحيحة متبدلة، أو عوائد متغيّرة، ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غيرِ تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائدَ تغيرت واختلفت.
وسيكون البحث عن ضرورة فقه مراعاة مآلات الأفعال أثناء تطبيق النصوص الشرعية على واقع الحياة.
منظرو القاعدة:
وقد كان أول مَن خَصَّ هذا الموضوع بالدراسة والبحث، هو الإمام الشاطبي، الذي حاول إبراز ملاحظة المآلات التي تتمخض عن تطبيق الأحكام الشرعية عند إرادة إصدار الحكم عليها بالإذن أو المنع من قِبَل المجتهد، وتوظيف تلك النتائج في تكوين مناط الحكم وتكييفه الشرعي.
قال الشاطبي: [النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة.
وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه.
وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك.
فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية.
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية.
عدد القراء : 1511