الجلسة العلمية السابعة (الأشباه والنظائر)
الجلسة العلمية السابعة (الأشباه والنظائر)
مراتب المجتهدين في الجملة
هي في الجملة أربع مراتب:
1 - المجتهد المطلق: وهو مَن بلغ رتبة الاجتهاد، واستقل بإدراك القواعد لمذهب معين، دون تقليد أو تبعية لأحد.
2 - المجتهد المطلق المنتسب: وهو مَن بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، لكنه لا زال منتسبًا إلى مذهب غيره، ولم يؤسس قواعد وضوابط للاستنباط.
3 - المجتهد المذهبي: وهو مَن يقوم بتقرير أصول الإِمام والتخريج عليها غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول ذلك الإِمام وقواعده، فهو مجتهد داخل المذهب.
4 - المجتهد الخاص: أو المجتهد الجزئي: وهو المجتهد في بعض أبواب الفقه أو في بعض مسائله لا في كله، وهو ما يعبر عنه بتجزئة الاجتهاد. ولذلك قال ابن قدامة: "ليس من شرط الاجتهاد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها، فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها" (1).
ولعلّ المجتهد الخاص هو المناسب لدراسة النوازل لا سيما في هذا العصر، وخاصة في الاجتهاد الجماعي الذي يضم مجموعة من العلماء قد يكون من بينهم متخصصون غير شرعيين، وإنما يستفاد منهم في كشف أكثر من علم مثل قضايا الاقتصاد والطب ونحوها.
مراتب المجتهدين:
المجتهد إما مستقل أو غير مستقل، وغير المستقل أربعة أقسام، فتكون مراتب المجتهدين خمسًا، وهي:
1 - المجتهد المستقل المطلق:
وهو الذي توفرت فيه الشروط السابقة، وكان له قواعد لنفسه، وأصول خاصة يعتمد عليها، ويبني عليها أحكام الفقه، ويمارسها في الاجتهاد، وكان اجتهاده في عامة أبواب الفقه، ويبذل جهده في معرفة النوازل والوقائع وما يُسأل عنه، وهذا هو المجتهد المطلق المستقل.
وهذا الصنف لم يعد متوفرًا، ويمتنع على الإنسان أن تتوفر فيه هذه الصفات، وخاصة مع اتساع العصر، وتنوع العلوم، وكثرة الوقائع والنوازل، والاعتماد على التخصص العام، والتخصص الفرعي الدقيق في مختلف العلوم وفي شؤون الحياة.
ومن أمثلة المجتهد المطلق فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة الذين جاؤوا بعدهم واشتهروا بالاجتهاد المطلق كالإمام زيد، ومحمد الباقر، وأبي حنيفة، وجعفر الصادق، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وابن جرير الطبري، وأبي ثور، وابن المنذر، وغيرهم كثير.
2 - المجتهد المطلق غير المستقل:
وهو الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد كالصنف السابق، لكن لم يضع لنفسه قواعد ينفرد بها، بل التزم طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مجتهد مطلق منتسب، فهو لم يقلد إمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقته في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرًا منه على أهله، فوجده صوابًا، وأولى من غيره، وذلك مثل أبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب من المالكية، والبويطي والزعفراني والمزني من الشافعية.
3 - المجتهد المقيد:
ويسمى: المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج؛ لأنه مقيد في مذهب إمام معين، وعاملٌ على تقرير أصوله بالدليل، ولا يتعدى أصوله وقواعده، ويتقنها مع فقهها وأدلة مسائلها، وفي ذات الوقت فإنه يعرف القياس، ويقدر على التخريج والاستنباط على أصول إمامه، ويلحق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه([1])، كالحسن بن زياد الكرخي والطحاوي من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي إسحاق المروزي من الشافعية، وغيرهم.
ويقوم مجتهد التخريج بنشاط في أقوال إمامه، فإذا أفتى الإمام في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، نقل حكم كل منهما إلى الأخرى، وصار في كل مسألة قولان بالاجتهاد والتخريج، ما لم يفرق الإمام بينهما، أو يقرب الزمن.
4 - مجتهد الترجيح:
وهو فقيه النفس، الحافظ لمذهب إمامه، العارف بأدلته، القائم بتقريرها، ثم يصور ويحرّر للمسائل الجديدة، ويمهد لها ويقررها، ويزيف ما يخالفها، ويرجح بين أقوال الإمام، ووجوه الأصحاب، ولم يبلغ رتبة المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج؛ لاقتصاره على حفظ المذهب، وعدم الارتياض في الاستنباط، وعدم ممارسته، ولم يتبحر في أصول الفقه ونحوه، ولكن لا يخلو علمه عن معرفة أطرافه، مثل القدوري والمرغيناني صاحب "الهداية" من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب والشيخ خليل من المالكية، وأبي الطيب الطبري وأبي حامد الإسفراييني والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي أبي يعلى وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وغيرهم كثير في كل مذهب، ممن لم يخل منهم عصر.
5 - مجتهد الفتيا:
وهو الفقيه الذي يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، ويعتمد عليه في نقل المذهب والفتوى به فيما يحكيه من كتب المذهب، ومنصوصات الإمام، وتفريعات الأصحاب المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم، فإن لم يجد حكمًا منقولًا في مذهبه، أعطى ما في معناه مما يدركه بأدنى فكر وتأمل، وأنه لا فارق بين الأمرين، وهذا النوع أكثر من أن يحصى في كل مذهب، وفي كل عصر ممن يتصدر للفتوى والتعليم([2])، وسوف نعود لبيانه في الفصل الثالث عن الإفتاء، وهم المسمَّون اليوم بالعلماء والفقهاء والمختصين بالشريعة، وهم القائمون على الاجتهاد الجزئي، وبيان أحكام النوازل والمستجدات، ويتولون الإفتاء وبيان الأحكام للناس.
[الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا]
[الْمَبْحَث الْأَوَّلُ: الْأَصْل فِي قَاعِدَةِ الْأُمُورِ بِمَقَاصِدِهَا]
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا
فِيهَا مَبَاحِث: (الْأَوَّلُ)
الْأَصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَة قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَهَذَا حَدِيث صَحِيح مَشْهُور أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالْعَجَب أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُخْرِجهُ فِي الْمُوَطَّإِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
والدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِك،
وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
وَابْنِ عَسَاكِرَ فِي أَمَالِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ،
كُلُّهُمْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ
وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيث أَنَسٍ «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ»
وَفِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ مِنْ حَدِيثه «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَالنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ،
وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ لِلدَّيْلَمِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى.
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ فِيهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَ فِي فِي امْرَأَتِكَ»،
وَمِنْ حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»،
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ «رُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ».
وَعِنْد ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»،
([1]) قال ابن حمدان رحمه اللَّه تعالى: "وأما المجتهد في مذهب إمامه، فنظره في بعض نصوص إمامه وتقريرها، والتصرف فيها كاجتهاد إمامه في نصوص الكتاب والسنة" وقال مثل ذلك ابن الصلاح وغيره، انظر: صفة الفتوى لابن حمدان ص 20، المسودة ص 544، شرح الكوكب المنير (4/ 468).
([2]) انظر مراتب المجتهدين وأصنافهم وحالاتهم في: المجموع للنووي (1/ 17) روضة الطالبين للنووي (11/ 101)، المسودة ص 547، رسائل ابن عابدين (1/ 11)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان ص 17، حاشية البناني على جمع الجوامع (2/ 385)، أعلام الموقعين (4/ 270)، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 113، شرح الكوكب المنير (4/ 367)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 184، البحر المحيط (6/ 211)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1079)، أصول الأحكام ص 365، 374.
عدد القراء : 801