دروس من الحج
دروس من الحج
اعلموا أن أياما مضت هي من أعظم أوقات الفضائل، فالسعيد من تنبه لها، وفطن لفضلها، فاستغلها واستعمرها بطاعة ربه.
وإن من تمام السعادة والاستفادة أن يتفكر الإنسان فيما أقدم عليه من مناسك وأعمال، وتدبر ماذا عسى أن يكون من العبر وراءها.
فإن الحاج عندما أحرم أولا تجرد من المخيط امتثالا لأمر الله وتذكراً لدار عما قليل سيصير إليها، وقبر عما قريب سيرحل إليه.
فما لباس الإحرام إلا كفن يلبسه ويمشي به، بحيث لا يبقى معك عند رحيلك من الدنيا إلا عملك الصالح: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة:281].
وعند الوقوف في الميقات للإحرام يعلم الحاج كيف يدعوه الإسلام إلى امتثال النظام، وكيف يدربه عمليا على ذلك.
فلا يحرم قبل الميقات، ولا دونه، بل من عنده أو بمحاذاته.
ثم لما وصل الحاج إلى مكة واستقبل بوجهه البيت العتيق تذكر أياما عظيمة خلت، وتاريخا مجيدا مر بالبيت، ولعلنا أن نكون من المحسنين.
ويتذكر كيف كان هذا البيت مهد الدعوة الإسلامية الأول، وأن في جنباته مشى أب الأنبياء وخاتم النبيين وآل البيت الأطهار والصحب الكرام.
ثم إن خروجه إلى منى رمز لتقديس أوامر الله وشعائره: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32].
وسار بعد ذلك إلى عرفات، فوقف فيها لله هو وجميع الناس في حرارة الشمس، متذكرا يوماً يكون حال الناس فيه بحسب أعمالهم.
ثم إذا قام الناس بعد غروب الشمس ونفروا إلى مزدلفة تذكر قول الله تعالى: {خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر:7].
يتذكر قيام الناس من قبورهم عند نفخة الصور وانسياقهم إلى المحشر، ثم إلى الجنة.
ثم بعد المبيت بمزدلفة يتذكر العدو الأول للإنسانية جمعاء إبليس، فيعلن الحاج برميه الجمرات عداوته وكراهيته له، وكأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يا رب أعادي من عاداك وعصاك، ولا أوالي إلا من والاك وألقي عن كاهلي أحمال المعاصي وأثقالها، فتقبل مني.
وعندما ينظر حوله عند النفرة من عرفات ومزدلفة وأثناء رمي الجمار وفي كل تجمع للحجاج يتذكر أهمية الوحدة، وحدة الأمة الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله، وأهمية الجماعة في إنجاز أوامر الله وتحكيم شرعه سبحانه وتعالى.
وإذا ما حلق شعره كأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يا رب نبذت ورميت ما تبقى من شعري ابتغاء مرضاتك، وطمعاً في غفرانك.
ولما يذبح أضحيته أو هديه يتذكر رمز الفداء الأول، ورمز التضحية الكبرى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ويعلم كيف أن في طاعة أوامر الله النجاةَ من كل كرب ومصيبة.
ثم إذا عاد إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة، وليسعى سعي الحج فإنه يجدد العهد مع ربه وكأني بالحاج حينذاك يناجي ربه فيقول: ها أنا يا رب أعود إلى بيتك، وأعظمه مرة بعد مرة، وها أنا يا مولاي ويا ربي منيب إليك، فلا ملجأ ولا ملاذ منك إلا إليك.
وإن العبد إذا خاف من شيء هرب منه أما إذا خاف الله فإنه يهرب إليك.
وفي مشاهدة الناظر إلى منى بعد أن خوت من الناس ورحل عنها من كان بالأمس القريب يعمرها، ورأى الخيام وقد هدمت بعد ما كانت بالأمس قد نصبت، في مشاهدة الناظر ذلك عبرة وأي عبرة، فهذا حال الدنيا صعود وهبوط ونزول وارتحال وتقلب في الأحوال.
ثم إذا ما جاء طائفا ومودعا البيت سَكَب العبرات، وكوى جنبيه ألمُ الفراق، وبكى لله، وتمنى أن تكون له عودة وأوبة إلى غسل النفس من ذنوبها، وطهارتها من أدرانها.
فلندم ذكر الله، في كل حال وبخاصة بعد انقضاء المناسك يقول تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} [البقرة:200-202].
عدد القراء : 480