جهود العلماء المسلمين في إحياء التراث وتحقيق المخطوطات
يزعم بعض الباحثين بأن فن تحقيق المخطوطات مقتبس عن المستشرقين، وباختصار فإن هذه المزاعم تتبدد أمام جهود العلماء المسلمين، والتي تجلت في المعالم الآتية:
- المقابلة بين النسخ.
- التصحيح والتضبيب.
- علاج السقط.
- علاج الزيادة.
- علاج التشابه بين الحروف.
- صنع الحواشي.
- علامات الترقيم.
- استخدام الرموز التعقيبية، وعلامات الإهمال.
- استخدام الاختصارات.
- التعريفات والتخريجات والتنبيهات وسائر أنواع التعليقات.
وفيما يأتي شرح لهذه المعالم:
أولاً: المقابلة بين النسخ:
المقابلة بين النسخ هي العرض، أي: المقابلة بين النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف، وبين نسخة المؤلف، أو مقابلتها على نسخةٍ وَضَع المؤلف خطه (توقيعه) عليها، أو مقابلتها على نسخة قوبلت على نسخة المؤلف.
وضرورة المقابلة هي تصحيح الأخطاء، وجعل النسخة المنقولة معتمدة موثوقاً بها، ومن أدلة حرص القدامى على المقابلة:
قول عروة لابنه هشام بعد ما كتب ما سمع في مجلس الحديث: "كتبت؟، قال: نعم، فقال له: عرضت؟، قال: لا، فقال عروة له: ما كتبتَ".
وكذلك قال الشافعي في ضرورة المقابلة: "مَن كتب ولم يعرض كان كمَن دخل الخلاء ولم يستنج".
ويقول القاضي عياض: "قابل نسختك بنفسك، ولا تعتمد على نسخ أيٍ؛ مهما كان حاذقاً؛ فإن الفكر يذهب، والنظر يزيغ، والقلب يسهو، والقلم يطغى".
ثانياً: التصحيح والتضبيب:
قال القاضي عياض: (الحذَّاق من النساخ يعنون بالتضبيب والتصحيح)، ومعنى ذلك:
أ – التضبيب أو التمريض: هو وضع حرف (صـ) فوق الكلام الذي صح نقلاً ورواية؛ ولم يصح من حيث المعنى، أو اللفظ في رأي الناسخ.
وذلك للتنبيه على صحة الرواية كما هي مثبتة؛ مراعاة لأمانة النقل، ثم حين التحقق من صحة الكلام المُشكِل الموجود.
تضاف (ـح) إلى (صـ) فتصبح (صح)، وإلا يكتب في الحاشية وجه الصواب للكلام المُشكِل، وبعضهم يضع فوق الكلام المُشكِل كلمة (كذا)، أي: هكذا وجدته في النسخة التي أنقل عنها، ثم يكتب في الحاشية (صوابه) ويكتب ما يرى أنه الصواب إذا تحقق من ذلك، أو يكتب (لعله) ثم يذكر ما ظن أنه الصواب؛ إذا لم يتحقق.
ب – التصحيح: يعني وضع كلمة (صح) فوق الكلام الذي صح نقلاً ومعنىً، ولكنه عرضة لشك القارئ والناسخ؛ وذلك للتنبيه على أن صاحب النسخة لم يغفل عن ذلك، وهذا ما يَظهر من معنى الكلمة، يقال: صحح الكلام، إذا أثبت صحته، وهذا هو مرادنا من التصحيح.
مثاله: حديث (( ... إذا استأذنوكم صح)) والأصل (استأذنكم) للنساء.
ثالثاً: علاج السقط:
مع ندرة وسائل الكتابة والأوراق: كان النُّسَّاخ إذا سقط من الكلام الذي ينسخونه شيء لا يستدركونه بين السطور ـ كما يفعل البعض اليوم في كتبهم ـ حرصاً على جمال الصفحة المكتوبة؛ بل يستدركون في الحاشية اليمنى أو اليسرى من الصحيفة ما سقط من الكلام ويضعون مكان السقط علامة (اللَّحق، أو الإلحاق أو الإحالة)، وهي خط صاعد في مكان السقط ثم ينعطف إلى جهة اليمين أو اليسار (أي: جهة تخريج الكلام المستدرَك)، وإذا كان ما يُستدرك من الكلام ألفاظاً كثيرة فإنه يكتب باتجاه طول الصحيفة لا باتجاه العرض صاعداً إلى أعلى الورقة غالباً، وهذه الطريقة تتسع لاستدراك الكلام الكثير، ثم يكتب في نهاية الاستدراك كلمة التصحيح (صحـ).
رابعاً: علاج الزيادة:
مع عدم وجود المزيل المتوفر في هذا الأيام، كان النُّسَّاخ إذا أرادوا أن يلغوا شيئاً زائداً في الكلام، أو شيئاً كُتِب على غير وجهه عالجوا ذلك على النحو الآتي:
- الكشط: ويكون بالحك، أو سلخ ظاهر الورقة؛ بسكين ونحوها؛ لإلغاء ذلك الكلام المراد إلغاؤه.
- المحو: وهو إزالة الكلام بغير كشط، وهذه الطريقة أولى من الطريقة السابقة؛ وتستخدم إذا كان الحبر المستخدم في الكتابة قابلاً للإزالة.
- الضرب على الملغى، وهو أولى الطريقتين السابقتين، ويكون بكيفيات خمس:
- أ- وضع خط ممتد أو خطوط متقطعة فوق الكلام المراد إلغاؤه؛ بحيث يُقرأ من تحتها، وغالباً ما يكون الخط أو الخطوط تمس رؤوس أحرف الكلمات.
- ب- وضع ما يشبه الباء المقلوبة تحيط بالكلام المراد إلغاؤه من أعلاه ( ).
- ت- كتابة (من) أو (لا) أو الكلام المراد إلغاؤه، وكتابة (إلى) عند نهاية الكلام المراد إلغاؤه.
- ث- وضع الكلام المراد إلغاؤه بين قوسين.
- ج- وضع نقطة مجوفة أو الكلام المراد إلغاؤه، ونقطة أخرى في نهاية ما يراد إلغاؤه، وقد استعملت كلمة (النقط) بمعنى الإلغاء في بعض عبارات السلف، كما جاء عن معمر بن المثنى في قوله لأحد تلامذته، وقد ألغى قصيدة زعم المفضل الضبي أنها لأحد الشعراء الجاهليين، قال معمر: (انقط عليها، هذه من صنع المفضل الضبي).
خامساً: علاج التشابه بين الحروف.
إهمال معالجة التشابه بين الحروف يُوقع في التصحيف والتحريف.
أما التصحيف فهو: الخطأ في نقط الحروف، أو رسم الحركات، مع الحفاظ على صورة الخط، ومثال ذلك: ما قال أبو نواس في هجاء أبان اللاحقي:
صفحت أمك إذ سمتك في المهد أبانا
صيرت باء مكان التــــــــاء تصحيفاً عيانا
قد علمنا ما أرادت لم ترد إلا أتانا
وأما التحريف فهو: الخطأ في هيئة الحروف، أو زيادة الكلام، أو نقص منه، أو تبديل، أو تغيير في الكلام.
وقد عالج القدامى هذا التشابه في الحروف والألفاظ (أي: التصحيف والتحريف) بما يأتي:
أ – توصية الكتَّاب والنُّسَّاخ أثناء النسخ والمقابلة، وتوصية أصحاب النسخ بإعجام الحروف المعجمة، وضبط ما يحتاج إلى ضبط؛ بوضع الحركات على الحروف.
وفي ذلك يقولون: (ينبغي أن تُعجِم المعجم، وتُشكِّل المُشكل، وتضبط الملتبس، وتتفقد مواضع التصحيف).
ب – استعمال الرموز مع الحروف المهملة للتأكيد على إهمالها، وعلى سبيل المثال لهذه الرموز:
الحاء الصغيرة تُوضع تحت الحاء؛ للدلالة على أنها مهملة (غير منقوطة).
السين الصغيرة تُوضع تحت السين؛ للدلالة على أنها مهملة (غير معجمة).
( ) توضع فوق الراء.
ج ـ ضبط حروف الكلمات بالألفاظ، كما في قولهم (الحسحاسي)؛ بالسين الساكنة بين الحائين، والحاء والألف بين السنين المهملات.
سادساً: صنع الحواشي.
لمعرفة هذا الجانب من جوانب التحقيق عند القدامى لا بد من معرفة ما يأتي:
- الفرق بين الحاشية والهامش: الحاشية هي الفراغ الأيمن أو الأيسر من الصحيفة، وأما الهامش فالمراد به الفراغ في أسفل الصحيفة، وما كان يستعمله الأقدمون من هذه الفراغات إنما هو الحواشي اليمنى واليسرى.
- الغرض من استعمال الحواشي: كان المؤلف أو الناسخ للمخطوط يستعمل هذه الحواشي لما يستدركه من السقط الواقع في الكلام، أو يكتب في نهاية الحاشية غالباً كلمة (صحـ)، كما كان يستعمل هذه الحواشي القراء والدارسون، ويكتبون فيها تعريف المصطلحات أو إثبات الفروق بين النسخ، أو التعريف ببعض الأعلام، وتتميز هذه الحواشي بعدم كتابة (صحـ) في نهايتها، وربما رسم حرف (حـ) في نهاية الحاشية؛ للدلالة على ذلك، أو وضع رقم هندي مكرر بين المتن والحاشية.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن نجيب على سؤال:
لِمَ كان المؤلفون القدامى لا يستخدمون الحواشي كما نستخدمها اليوم؛ أي: للمعلومات الخارجة عن الموضوع؛ كتخريج الحديث، والتعريف بالأعلام، ونحو ذلك؟.
الجواب: أنه كان من عادة النُّسَّاخ إذا نسخوا المخطوط أن يهملوا هذه الحواشي؛ فلا ينسخونها على اعتبار أنها من صنع القراء لا مِن عمل المؤلف وصلب البحث، ولذلك كان المؤلفون يدرجون هذه المعلومات في صلب أبحاثهم تحت عناوين متنوعة؛ مثل: (تنبيه)، (فائدة)، (إيقاظ).
سابعاً: علامات الترقيم.
عرف العلماء السابقون من علامات الترقيم ما يأتي:
- النقطة المجوفة، وعلامتها (o) تُوضع في نهاية الكلام، أو نهاية كل آية، أو حديث، أو ترجمة، وما إلى ذلك.
- الهاء، وعلامتها (هـ)، وتُوضع في نهاية الاقتباس، وقد يصرحون بانتفاء الاقتباس بدون هذه العلامة، فيقولون: انتهى كلام فلان، ونحو ذلك.
- النقطة المطموسة، وعلامتها (0)، وتُوضع بين شطري البيت من الشعر.
ثامناً: استخدام الرموز التعقيبية، وعلامات الإهمال.
كان القدامى يستخدمون عدداً من الرموز، منها:
- النقطة داخل النقطة المجوفة، وعلامتها ( )، ويستعملونها للإشارة إلى المقابلة بين النسخ، وقد توجد نقطتان، أو ثلاث؛ للدلالة على تكرار المقابلة.
- التعقيبة: وهي أن يكتب في الزاوية اليسرى السفلى من خلف الورقة الكلمة الأولى من وجه الورقة التالية، وذلك لمعرفة تتابع الصفحات.
- علامات الحروف المهملة؛ كما سبق في فقرة سابقة.
- علامة رفع التشابه بين الحروف؛ وذلك بكتابة اسم الحرف عند مجيء الرحف في الخط الذي يشتبه مع حرف غير مراد، مثال: (حمل الرجل أمه) فبالكتابة بخط اليد قد يشتبه حرف اللام في (حمل) مع حرف الدال؛ فتصبح (حمد الرجل أمه)؛ لذلك يكتب فوق حرف اللام (لام) بخط صغير؛ للدلالة على أن الحرف هو (لام)، وليس حرفاً آخر، وهكذا في الحروف التي قد تشتبه؛ يكتب اسم الحرف فوقه.
تاسعاً: استخدام اختصارات مصطلحات العلوم.
- مختصرات علم الحديث: (نا، ثنا: حدثنا)، (أنا، أرنا: أخبرنا)، (أنبأ: أنبأنا)، (ح: تحويل للسند الآخر).
- مختصرات القاموس، وهي: (د: بلدة)، (م: معروف)، (ع: موضع)، (ج: جمع)، (ة: قرية).
- وكذلك نجد في بعض حواشي المخطوطات مختصرات، مثل: (عو: عورضت النسخة إلى هذا الموضع)، (قو: قوبلت النسخة إلى هذا الموضع)، (بلغ: بلغ العرض إلى هنا)، ونحو ذلك.
عاشراً: التعريفات والتخريجات والتنبيهات وسائر أنواع التعليقات.
ونجد من معالم التحقيق القديمة كثيراً مما يهتم به المحققون المحدثون، مثل:
تراجم الأعلام.
التعريف بالأماكن والبلاد.
شرح المصطلحات والألفاظ الغريبة.
وما إلى ذلك مما يحتاج إلى تعليق.
عدد القراء : 3077